صفحة جزء
الفصل الثاني في المفتي : ومتى لم يكن في الموضع إلا واحد يصلح للفتوى ، تعين عليه أن يفتي ، وإن كان هناك غيره فهو من فروض الكفايات ، ومع هذا فلا يحل التسارع إليه ، فقد كانت الصحابة - رضي الله عنهم - مع مشاهدتهم الوحي يحيل بعضهم على بعض في الفتوى ، ويحترزون عن استعمال الرأي والقياس ما أمكن .

ثم نتكلم في ثلاث [ ص: 99 ] جمل ، إحداها في المفتي ، فيشترط إسلامه وبلوغه وعدالته ، فالفاسق لا تقبل فتواه ، ويلزمه أن يعمل لنفسه باجتهاده ، ويشترط في المفتي أيضا التيقظ وقوة الضبط ، فلا يقبل ممن تغلب عليه الغفلة والسهو ، ويشترط فيه أهلية الاجتهاد ، فلو عرف العامي مسألة أو مسائل بدليلها لم يكن له أن يفتي بها ، ولا لغيره أن يقلده ويأخذ بقوله فيها ، وقيل : يجوز ، وقيل : إن كان نقليا جاز ، وإن كان قياسيا فلا ، والصحيح الأول .

والعالم الذي لم يبلغ غاية الاجتهاد كالعامي في أنه لا يجوز تقليده على الصحيح . وموت المجتهد هل يخرجه عن أن يقلد ويؤخذ بقوله ؟ وجهان الصحيح : أنه لا يخرجه ، بل يجوز تقليده كما يعمل بشهادة الشاهد بعد موته ، ولأنه لو بطل قوله بموته ، لبطل الإجماع بموت المجمعين ، ولصارت المسألة اجتهادية ، ولأن الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم ، فلو منعنا تقليد الماضين ، لتركنا الناس حيارى . وبنوا على هذين الوجهين أن من عرف مذهب مجتهد ، وتبحر فيه ، لكن لم يبلغ رتبة الاجتهاد ، هل له أن يفتي ويأخذ بقول ذلك المجتهد ؟ فعلى الصحيح يجوز . هكذا صوروا الفرع ، ولك أن تقول : إذا كان المأخذ ما ذكرنا ، فسواء المتبحر وغيره ، بل العامي إذا عرف حكم تلك المسألة عند ذلك المجتهد فأخبر به ، وأخذ غيره به تقليدا للميت وجب أن يجوز على الصحيح .

قلت : هذا الاعتراض ضعيف أو باطل ؛ لأنه إذا لم يكن متبحرا ربما ظن ما ليس مذهبا له مذهبه ، لقصور فهمه وقلة اطلاعه على مظان المسألة واختلاف نصوص ذلك المجتهد ، والمتأخر منها ، والراجح وغير ذلك ، لاسيما مذهب الشافعي - رحمه الله - الذي لا يكاد يعرف ما يفتى به منه إلا أفراد ، لكثرة انتشاره ، واختلاف ناقليه في النقل والترجيح .

فإن فرض هذا في مسائل صارت كالمعلومة علما قطعيا عن ذلك المذهب ، كوجوب النية في الوضوء ، والفاتحة في الصلاة ، ووجوب الزكاة في [ ص: 100 ] مال الصبي والمجنون ، ووجوب تبييت النية في صوم الفرض ، وصحة الاعتكاف بلا صوم ، وعدم وجوب نفقة البائن الحامل ، ووجوب القصاص في القتل بالمثقل وغير ذلك عند الشافعي - رضي الله عنه - فهذا حسن محتمل . والله أعلم .

وإذا جوزنا الفتوى إخبارا عن مذهب الميت ، فإن علم من حاله أنه يفتي على مذهب إمام معين ، كفى إطلاق الجواب ، وإلا فلا بد من إضافته إلى صاحب المذهب .

فرع

ليس لمجتهد أن يقلد مجتهدا لا ليعمل به ، ولا ليفتي به ، ولا إذا كان قاضيا ليقضي به ، سواء خاف الفوت لضيق وقت أم لا .

وقال ابن سريج : له التقليد إذا ضاق الوقت ليعمل به ، لا ليفتي ، وقياسه أن لا يجوز للقضاء وأولى . وفي " الشامل " و " التهذيب " طرد قول ابن سريج في القضاء . وصورة الضيق فيه : أن يتحاكم مسافران والقافلة ترتحل ، ومن قال به ، فقياسه طرده في الفتوى .

فرع

هل يلزم المجتهد تجديد الاجتهاد إذا وقعت الحادثة مرة أخرى ، أو سئل عنها مرة أخرى ، أم يعتمد اجتهاده الأول ؟ وجهان كما سبق في القبلة .

قلت : أصحهما لزوم التجديد ، وهذا إذا لم يكن ذاكرا لدليل الأولى ، ولم يتجدد ما قد يوجب رجوعه ، فإن كان ذاكرا ، لم يلزمه قطعا ، وإن تجدد ما يوجب الرجوع ، لزمه قطعا . والله أعلم .

[ ص: 101 ] فرع

المنسوب إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ثلاثة أصناف . أحدها : العوام وتقليدهم الشافعي مثلا مفرع على تقليد الميت وقد سبق .

والثاني : البالغون لرتبة الاجتهاد ، وقد ذكرنا أن المجتهد لا يقلد مجتهدا وإنما ينسب هؤلاء إلى الشافعي ؛ لأنهم جروا على طريقته في الاجتهاد واستعمال الأدلة وترتيب بعضها على بعض ، ووافق اجتهادهم اجتهاده وإذا خالف أحيانا لم يبالوا بالمخالفة .

والصنف الثالث : المتوسطون وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد في أصول الشرع ، لكنهم وقفوا على أصول الإمام في الأبواب وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه منصوصا له على ما نص عليه ، وهؤلاء مقلدون له تفريعا على تقليد الميت ، وهكذا من يأخذ بقولهم من العوام تقليدا له ، والمعروف للأصحاب أنه لا يقلدهم في أنفسهم ، لأنهم مقلدون ، وقد نجد ما يخالف هذا فإن أبا الفتح الهروي وهو من أصحاب الإمام يقول في الأصول : مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له ، فإن وجد مجتهدا قلده . وإن لم يجده ، ووجد متبحرا في مذهب ، فإنه يفتيه على مذهب نفسه ، وإن كان العامي لا يعتقد مذهبه . وهذا تصريح بأنه يقلد المتبحر في نفسه .

وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل مذهب إمامهما ، ومن هذا يتولد وجوه الأصحاب ، فنقول : أيهما يأخذ العامي ؟ فيه ما سنذكره في اختلاف المجتهدين إن شاء الله تعالى ، وإذا نص صاحب المذهب على الحكم والعلة ، ألحق بتلك العلة غير المنصوص بالمنصوص ، وإن اقتصر على الحكم ، فهل يستنبط المتبحر العلة ويعدي الحكم بها ، قال محمد بن يحيى : لا ، والأشبه [ ص: 102 ] بفعل الأصحاب جوازه ؛ لأنهم ينقلون الحكم ، ثم يختلفون في علته ، وكل منهم يطرد الحكم في فروع علته .

فرع

ذكر الشيخ أبو إسحاق أنه إذا نص الإمام في واقعة على حكم ، وفي أخرى شبهها على خلافه لا يجوز نقل قوله من إحداهما إلى الأخرى وتخريجهما على قولين ، وأن ما يقتضيه قوله لا يجعل قولا له إلا إذا لم يحتمل كقوله : ثبتت الشفعة في الشقص من الدار ، فيقال : قوله في الحانوت كذلك والمعروف في المذهب خلاف ما قاله ، لكن الأولى أن يقال : إنه قياس أصله أو قياس قوله ، ولا يقال : هو قوله .

فرع

للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأول عنده زجرا وتهديدا في مواضع الحاجة .

قلت : المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا : إذا رأى المفتي المصلحة أن يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره ، وله فيه تأويل ، جاز زجرا ، كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن توبة القاتل ، فقال : لا توبة له ، وسأله آخر فقال : له توبة ، ثم قال : أما الأول ، فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته ، أما الثاني ، فجاء [ ص: 103 ] مسكينا قد قتل ، فلم أقنطه ، قال الصيمري : وكذا إن سأله ، فقال : إن قتلت عبدي ، فهل علي قصاص ، فواسع أن يقال : إن قتلته قتلناك ، فعن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل عبده قتلناه " ولأن القتل له معان وهذا كله إذا لم يترتب على إطلاقه مفسدة . والله أعلم .

الجملة الثانية في المستفتي ، فيلزمه سؤال المفتي عند حدوث مسألته ، وإنما يسأل من عرف علمه وعدالته ، فإن لم يعرف العلم ، بحث عنه بسؤال الناس ، وإن لم يعرف العدالة ، فقد ذكر الغزالي فيه احتمالين أحدهما : أن الحكم كذلك ، وأشبههما الاكتفاء ؛ لأن الغالب من حال العلماء العدالة ، بخلاف البحث عن العلم ، فليس الغالب من الناس العلم ، ثم ذكر احتمالين في أنه إذا وجب البحث ، يفتقر إلى عدد التواتر ، أم يكفي إخبار عدل أو عدلين ؟ أصحهما : الثاني .

قلت : الاحتمالان فيما إذا لم تعرف العدالة ، هما فيمن كان مستورا وهو الذي ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه وهما وجهان ذكرهما غيره ، أصحهما الاكتفاء ؛ لأن العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة ، فيعسر على العوام تكليفهم بها ، وهذا الخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين .

أما الاحتمالان في اشتراط عدد التواتر ، والاكتفاء بعدل ، فهما محتملان ، ولكن المنقول خلافهما ، فالذي قاله الأصحاب أنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته ، وقيل : لا يكفي الاستفاضة ولا التواتر ، بل إنما يعتمد قوله : أنا أهل للفتوى ؛ لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا وثوق بها ، فقد يكون أصلها التلبيس ، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس ، والصحيح الأول ؛ لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته [ ص: 104 ] لأن الصورة فيمن وثق بدينه . ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته . قال الشيخ أبو إسحاق وغيره : نقبل في أهليته خبر عدل واحد ، وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره ، ولا يعتمد في ذلك خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية