صفحة جزء
المسألة الثالثة : يستحب للإمام أن يأذن للقاضي في الاستخلاف ، فإن لم يأذن ، فله حالان أحدهما : أن يطلق التولية ، ولا ينهاه عن الاستخلاف ، فإن أمكنه القيام بما تولاه ، كقضاء بلدة صغيرة ، فليس له الاستخلاف على الأصح ، وإن لم يمكنه كقضاء بلدتين أو بلد كبير ، فله الاستخلاف في القدر الزائد على ما يمكنه ، وليس له الاستخلاف في الممكن على الأصح ، والقياس فيما إذا أذن له أن يكون في القدر [ ص: 119 ] المستخلف فيه هذان الوجهان إلا أن يصرح بالاستخلاف في الجميع ، وقطع ابن كج بالجواز في الكل عند مطلق الإذن .

الحال الثاني : أن ينهاه عن الاستخلاف ، فلا يجوز الاستخلاف ، فإن كان ما فوضه إليه لا يمكنه القيام به ، فقال القاضي أبو الطيب : هذا النهي كالعدم ، والأقرب أحد أمرين إما بطلان التولية ، وبه قال ابن القطان ، وإما اقتصاره على الممكن ، وترك الاستخلاف .

قلت : هذا أرجحهما ، والله أعلم .

وجميع ما ذكرناه في الاستخلاف العام ، أما في الأمور الخاصة ، كتحليف وسماع بينة ، فقطع القفال بجوازه للضرورة ، وقال غيره : هو على الخلاف ، وهو مقتضى إطلاق الأكثرين .

فروع

أحدها : يشترط في الذي يستخلفه ما يشترط في القاضي ، قال الشيخ أبو محمد وغيره : فإن فوض إليه أمرا خاصا ، كفاه من العلم ما يحتاج إليه في ذلك الباب حتى إن نائب القاضي في القرى إذا كان المفوض إليه سماع البينة ونقلها دون الحكم ، كفاه العلم بشروط سماع البينة ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد .

الثاني : قال الروياني في " التجربة " : نص الشافعي - رحمه الله - في " المبسوط " يدل على أن الحاكم الشافعي لا يجوز أن يستخلف من يخالفه ، والمعروف في المذهب خلافه ؛ لأن الحاكم يعمل باجتهاده حتى لو شرط على النائب أن يخالف اجتهاده ، ويحكم باجتهاد المنيب لم يجز ، وكذا إذا جوزنا تولية المقلد للضرورة ، فاعتقاد المقلد في حقه كاجتهاد المجتهد ، فلا يجوز أن يشرط عليه الحكم بخلاف اعتقاد مقلده ، [ ص: 120 ] فلو خالف وشرط القاضي الحنفي على النائب الشافعي الحكم بمذهب أبي حنيفة قال في " الوسيط " : له الحكم في المسائل التي اتفق عليها الإمامان دون المختلف فيها ، وهذا حكم منه بصحة الاستخلاف ، لكن قال الماوردي وصاحبا " المهذب " و " التهذيب " وغيرهم : لو قلد الإمام رجلا القضاء على أن يقضي بمذهب عينه ، بطل التقليد . ومقتضى هذا بطلان الاستخلاف هناك ، وفي فتاوى القاضي حسين أن الإمام الحنفي لو ولى شافعيا بشرط أن لا يقضي بشاهد ويمين ، ولا على غائب ، صحت التولية ، ولغا الشرط ، فيقضي بما أدى إليه اجتهاده ، ومقتضى هذا أن لا يراعى الشرط هناك ، قال الماوردي : ولو لم تجر صيغة الشرط ، بل قال الإمام : قلدتك القضاء ، فاحكم بمذهب الشافعي ، ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة ، صح التقليد ، ولغا الأمر والنهي ، وفيه احتمال ، قال : ولو قال : لا تحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد ، جاز ، وقد قصر عمله على باقي الحوادث ، وحكى وجهين فيما لو قال : لا تقض فيهما بقصاص أنه يلغو أم يكون منعا له في الحكم في القصاص نفيا وإثباتا .

الثالث : حيث منعنا الاستخلاف ، فاستخلف فحكم الخليفة باطل ، لكن لو تراضى خصمان بحكمه ، كان كالمحكم وليس للقاضي إنفاذ حكمه ، بل يستأنف الحكم بينهما ، وإذا جوزنا الاستخلاف ، فاستخلف من لا يصلح للقضاء ، فحكمه باطل أيضا ، ولا يجوز إنفاذه .

التالي السابق


الخدمات العلمية