صفحة جزء
[ ص: 150 ] القاعدة الثالثة : المسائل الفروعية الاجتهادية إذا اختلف المجتهدون فيها طريقان أشهرهما قولان ، أظهرهما : المحق فيها واحد ، والمجتهد مأمور بإصابته ، والذاهب إلى غيره مخطئ ، والثاني : أن كل مجتهد مصيب ، والطريق الثاني القطع بالقول الأول ، وبه قال أبو إسحاق ، والقاضي أبو الطيب ، فإن قلنا : المصيب واحد ، فالمخطئ مغدور غير آثم ، بل مأجور ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا اجتهد الحاكم ، فأصاب ، فله أجران ، وإذا اجتهد ، فأخطأ ، فله أجر " وقال الشيخ أبو إسحاق في " اللمع " قال ابن أبي هريرة : يأثم ، والصواب الأول ، وفيما يؤجر عليه وجهان عن أبي إسحاق أحدهما - وهو ظاهر النص ، واختيار المزني - : يؤجر على قصده الصواب ، ولا يؤجر على الاجتهاد ؛ لأنه أفضى به إلى الخطأ ، وكأنه لم يسلك الطريق المأمور به ، والثاني يؤجر عليه ، وعلى الاجتهاد جميعا . وإذا قلنا : كل مجتهد مصيب ، فهل نقول : الحكم والحق في حق كل واحد من المجتهدين ما ظنه ، أم الحق واحد ، وهو أشبه مطلوب إلا أن كلا منهم مكلف بما ظنه لا بإصابة الأشبه ؟ وجهان ، اختار الغزالي الأول ، وبالثاني قطع أصحابنا العراقيون ، وحكوه عن القاضي أبي حامد والداركي .

فرع

متى حكم القاضي بالاجتهاد ، ثم بان له الخطأ في حكمه ، فله حالان ، أحدهما : إن تبين أنه خالف قطعيا كنص كتاب ، أو سنة متواترة ، أو إجماع ، أو ظنا محكما بخبر الواحد ، أو بالقياس الجلي ، فيلزمه نقض حكمه .

وهل يلزم القاضي تعريف الخصمين صورة الحال ليترافعا إليه ، فينقض الحكم ؟ وجهان ، قال ابن سريج : لا يلزمه إن علما أنه بان له الخطأ ، فإن ترافعا إليه ، نقض ، وقال سائر الأصحاب : يلزمه وإن علما أنه بان [ له ] الخطأ ، وهذا هو الصحيح ، لأنهما قد [ ص: 151 ] يتوهمان أنه لا ينقض وإن بان الخطأ . هذا في حقوق الآدميين ، وأما ما يتعلق بحدود الله تعالى ، فيبادر إلى تداركه إذا بان له الخطأ ، وما لا يمكن تداركه سبق حكم ضمانه .

الحال الثاني : إن تبين له بقياس خفي رآه أرجح مما حكم به ، وأنه الصواب ، فليحكم فيما يحدث بعد ذلك من أخوات الحادثة بما رآه ثانيا ، ولا ينقض ما حكم به أولا ، بل يمضيه ، ثم ما نقض به قضاء نفسه نقض به قضاء غيره ، وما لا ، فلا . ولا فرق بينهما إلا أنه لا يتبع قضاء غيره ، وإنما ينقضه إذا رفع إليه ، وله تتبع قضاء نفسه لينقضه ، ولو كان المنصوب للقضاء قبله لا يصلح للقضاء ، نقض أحكامه كلها ، وإن أصاب فيها ، لأنها صدرت ممن لا ينفذ حكمه ، هذا هو القول الجملي فيما ينقض ولا ينقض .

ثم تكلموا في صور ، منها لو قضى قاض بصحة نكاح المفقود زوجها بعد مضي أربع سنين ، ومدة العدة ، فوجهان أشهرهما وظاهر النص ، نقضه ، لمخالفة القياس الجلي ؛ لأنه يجعل حيا في المال ، فلا يقسم بين ورثته ، فلا يجعل ميتا في النكاح .

والثاني : لا ينقض كغيره من الاجتهاديات ، قال الروياني : هذا هو الصحيح .

وقرب من هذا الخلاف الخلاف في نقض حكم من قضى بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس ، أو بسقوط الحد عمن نكح أمه ووطئها ، ومنها حكم الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا بالتقييد الذي يجوزه ، وفي ذكاة الجنين ، ومنع القصاص في القتل بالمثقل ، وصحة النكاح بلا ولي ، أو بشهادة فاسقين ، أو حكم غيره بصحة بيع أم الولد ، وثبوت حرمة الرضاع بعد حولين ، وصحة نكاح الشغار والمتعة ، وقتل المسلم بالذمي ، وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف ، وجريان التوارث بين المسلم والكافر ، ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب على ما قاله ابن أبي ليلى ، وفي نقض هذه [ ص: 152 ] الأحكام وجهان ، قال الروياني : الأصح لا نقض ، لأنها اجتهادية ، والأدلة متقاربة ، ومن نقض ، قال : فيها نصوص وأقيسة جلية ، وينقض قضاء من حكم بالاستحسان الفاسد .

فرع

ما ينقض من الأحكام لو كتب به إليه لا يخفى أنه لا يقبله ولا ينفذه ، وأما ما لا ينقض ويرى غيره أصوب منه ، فنقل ابن كج عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه يعرض عنه ، ولا ينفذه ؛ لأنه إعانة على ما يعتقده خطأ .

وقال ابن القاص : لا أحب تنفيذه . وفي هذا إشعار بتجويز التنفيذ ، وقد صرح السرخسي بنقل الخلاف ، فقال : إذا رفع إليه حكم قاض قبله ، فلم ير فيه ما يقتضي النقض ، لكن أدى اجتهاده إلى غيره ، فوجهان ، أحدهما : يعرض عنه ، وأصحهما : ينفذه ، وعلى هذا العمل كما لو حكم بنفسه ، ثم تغير اجتهاده تغيرا لا يقتضي النقض ، وترافع خصماء الحادثة إليه فيها ، فإنه يمضي حكمه الأول ، وإن أدى اجتهاده إلى أن غيره أصوب منه .

فرع

إذا استقضي مقلد للضرورة ، فحكم بمذهب غير مقلده ، قال الغزالي في الأصول : إن قلنا : لا يجوز للمقلد تقليد من شاء بل عليه اتباع مقلده ، نقض حكمه ، وإن قلنا : له تقليد من شاء ، لم ينقض .

التالي السابق


الخدمات العلمية