صفحة جزء
[ ص: 185 ] فصل

ذكرنا في أول الطرف أن القاضي بعد سماع البينة قد يحكم ، وينهيه إلى حاكم آخر ، وقد يقتصر على السماع وينهيه ، وفرغنا من القسم الأول ، وأما الثاني فنقدم عليه مقدمة فيما يمتاز به أحد القسمين على الثاني وفي فروع تتعلق بالحكم .

اعلم أن صيغ الحكم في قوله : حكمت على فلان لفلان بكذا وألزمته ، لما سبق في الأدب الخامس من الباب الثاني ، فلو قال : ثبت عندي كذا بالبينة العادلة ، أو صح ، فهل هو حكم ؟ فيه وجهان أحدهما : نعم ؛ لأنه إخبار عن تحقيق الشيء جزما وأصحهما لا ؛ لأنه قد يراد به قبول الشهادة ، واقتضاء البينة صحة الدعوى ، فصار كقوله : سمعت البينة وقبلتها ولأن الحكم هو الإلزام ، والثبوت ليس بإلزام .

وأما ما يكتب [ على ] ظهور الكتب الحكمية وهو : صح ورود هذا الكتاب علي ، فقبلته قبول مثله ، وألزمت العمل بموجبه ، فليس بحكم لاحتمال أن المراد تصحيح الكتاب ، وإثبات الحجة ، ولا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي على الأصح ، وهل يصح أن يلزم القاضي الميت بموجب إقراره في حياته ؟ وجهان . ويشترط تعيين ما يحكم به ، ومن يحكم له ، لكن قد يبتلى القاضي بظالم يريد ما لا يجوز ، ويحتاج إلى ملاينته ، فرخص له دفعه بما يوهم أنه أسعفه بمراده .

مثاله : أقام خارج بينة وداخل بينة ، والقاضي يعلم فسق بينة الداخل ، ولكنه يحتاج إلى ملاينته ، وطلب الحكم بناء على ترجيح بينة الداخل ، فيكتب : حكمت بما هو مقتضى الشرع في معارضة بينة فلان الداخل ، وفلان الخارج ، وقررت المحكوم به في يد المحكوم له ، وسلطته عليه ، ومكنته من التصرف فيه إذا ثبتت هذه [ ص: 186 ] المقدمة ، فإذا لم يحكم القاضي ، وأنهى ما جرى من الدعوى والبينة بالكتاب ، سمي بذلك كتاب نقل الشهادة ، وكتاب التثبيت ، أي : تثبيت الحجة .

وينص على الحجة ، فيذكر أنه قامت عنده بينة أو شاهد ويمين ، أو نكل المدعى عليه ، وحلف المدعي ، وإنما ينص على الحجة ، ليعرف المكتوب إليه تلك الحجة ، فقد لا يرى بعض تلك الحجة ، وهل يجوز أن يكتب بعلم نفسه ليقضي به المكتوب إليه ؟ قال في العدة : لا يجوز وإن جوزنا القضاء بالعلم ؛ لأنه ما لم يحكم به هو كالشاهد والشهادة لا تتأدى بالكتابة .

وفي أمالي السرخسي جوازه ، ويقضي به المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم . وإذا كتب بسماع البينة ، فليسم الشاهدين ، والأولى أن يبحث عن حالهما ويعدلهما ؛ لأن أهل بلدهما أعرف بهما ، فإن لم يفعل ، فعلى المكتوب إليه البحث والتعديل . إذا عدل ، فهل يجوز أن يترك اسم الشاهدين ؟ قال الإمام والغزالي : لا ، والقياس الجواز ، كما أنه إذا حكم ، استغنى عن تسمية الشهود ، وهذا هو المفهوم من كلام البغوي وغيره ، وهل يأخذ المكتوب إليه بتعديل الكتاب أم له البحث وإعادة التعديل ؟ لفظ الغزالي يقتضي الثاني ، والقياس الأول .

قلت : هذا الذي جعله القياس هو الصواب ، والله أعلم .

ولا حاجة في هذا القسم إلى تحليف المدعي ، والقول في إشهاد القاضي ، وفي أداء الشهود الشهادة عند المكتوب إليه وفي دعوى الخصم إن كان هناك من يشاركه في الاسم على ما سبق في القسم الأول ، وإذا عدل الكاتب شهود الحق ، فجاء الخصم ببينته على جرحهم [ ص: 187 ] سمعت ، ويقدم على التعديل ، وإن استمهل البينة الجرح أمهل ثلاثة أيام هكذا ذكره الأصحاب على طبقاتهم ، وكذا لو قال : أبرأتني ، أو قضيت الحق واستمهل ليقيم البينة عليه .

ولو قال : أمهلوني حتى أذهب إلى بلدهم وأجرحهم ، فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك ، أو قال : لي بينة أخرى هناك دافعة ، لم يمهل ، بل يؤخذ الحق منه ، فإذا أثبت جرحا أو دفعا ، استرد ، وسواء في ذلك كتاب الحكم وكتاب نقل الشهادة . وفي العدة أنه لو سأله المحكوم عليه إحلاف الخصم أنه لا عداوة بينه وبينهم وقد حضر الخصم عند المكتوب إليه أجابه إليه ، ولو سأل إحلافه على عدالتهم لم يجبه ، وكفى تعديل الحاكم إياهم ، وأنه لو ادعى قضاء الدين ، وسأل إحلافه : أنه لم يستوفه ، لم يحلف ؛ لأن الكاتب أحلفه .

وذكر البغوي في مثله في دعوى الإبراء أنه يحلفه : أنه لم يبرئه فحصل وجهان .

فرع

في مشافهة القاضي قاضيا بسماع البينة فإذا نادى قاض من طرف ولايته قاضيا من طرف ولايته : إني سمعت البينة بكذا ، أو جوزنا قاضيين في بلد ، فقال ذلك قاض لقاض ، هل للمقول له الحكم بذلك ؟ قال الإمام والغزالي : يبنى ذلك على أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى قاض آخر هل هو نقل كشهادة الشهود كنقل الفروع شهادة الأصول ، أم حكم بقيام البينة ؟ وفيه وجهان فعلى الأول لا يجوز ، كما لا يحكم بالفرع مع حضور الأصل .

وعلى الثاني يجوز كما في الحكم المبرم ، وهذا أرجح عند الإمام والغزالي ، والصحيح الأول ، وبه قال عامة الأصحاب ، وقالوا أيضا : كتاب السماع إنما يقبل إذا كانت المسافة بين الكاتب وبين الذي بلغه الكتاب بحيث يقبل في مثلها الشهادة على [ ص: 188 ] الشهادة ، وهذا نصه في " عيون المسائل " ولو قال الحاكم لخليفته : اسمع دعوى فلان وبينته ، ولا تحكم به حتى تعرفني ، ففعل هل للحاكم أن يحكم به ؟ القياس أنه كإنهاء أحد القاضيين في البلد إلى الآخر ، لإمكان حضور الشهود عنده ، لكن الأشبه هنا الجواز ، وبه أجاب أبو العباس الروياني مع توقف فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية