صفحة جزء
الطرف الرابع في الحكم بالشيء الغائب على غائب . الغيبة والحضور إنما تتعاقبان الأعيان ، فأما إذا كانت دعوى نكاح أو طلاق أو رجعة ، أو إثبات وكالة ، فلا يوصف المدعي بغيبة ولا حضور ، وكذا إذا كان المدعى دينا .

ومتى ادعى عينا ، فإن كانت حاضرة مشارا إليها ، سلمت إلى المدعي إذا تمت حجته ، وإن كانت غائبة ، فلها حالان الأولى أن تكون غائبة عن البلد ، فهي إما عين يؤمن فيها الاشتباه والاختلاط ، كالعقار وعبد وفرس معروفين ، وإما غيرها ، والقسم الأول يسمع القاضي البينة عليه ، ويحكم ويكتب إلى قاضي بلد ذلك المال ليسلمه إلى المدعي ، ويعتمد في العقار على ذكر البقعة والسكة والحدود ، وينبغي أن يتعرض لحدوده الأربعة ، ولا يجوز الاقتصار على حدين أو ثلاثة ، ولا يجب التعرض للقيمة على الأصح لحصول التمييز دونه .

وأما القسم الثاني كغير المعروف من المعروف من العبيد والدواب وغيرها فهل يسمع البينة على عينها وهي غائبة ؟ قولان : أحدهما نعم ، كما يسمع على الخصم الغائب اعتمادا على الحلية والصفة ، ولأنه يحتاج إليه كالعقار .

والثاني : لا ، لكثرة الاشتباه ، وبهذا قال المزني ، ورجحه طائفة ، منهم أبو الفرج الزاز ، والأول اختيار الكرابيسي ، والإصطخري ، وابن القاص ، وأبي علي الطبري ، وبه أفتى القفال .

فإذا قلنا به ، فهل يحكم للمدعي بما قامت به البينة ؟ قولان ، أحدهما : نعم كالعقار ، وأظهرهما : لا ؛ لأن الحكم مع خطر الاشتباه والجهالة [ ص: 189 ] بعيد . والحاصل ثلاثة أقوال ، أظهرها : تسمع البينة فينبغي أن يبالغ البينة ولا يحكم ، والثاني لا يسمع ولا يحكم ، والثالث يسمع ويحكم ، هذه طريقة الجمهور ، وطردوها في جميع المنقولات التي لا تعرف ، وقال الإمام والغزالي : ما لا يؤمن فيه الاشتباه ضربان ما يمكن تمييزه بالصفات والحلي كالحيوان ، وما لا يمكن لكثرة أمثاله كالكرباس ، فالأول على الأقوال الثلاثة ، وقطعا في الكرباس ونحوه [ بأنه ] لا ترتبط الدعوى والحكم بالعين ، فإن قلنا : يسمع البينة ، فينبغي أن يبالغ المدعي في الوصف بما يمكن الاستقصاء والتعرض للثبات .

وبماذا يضبط بعد ذكر الجنس والنوع ؟ قولان حكاهما الهروي وغيره ، أحدهما لتعرض الأوصاف المعتبرة في السلم ، والثاني يتعرض للقيمة ، وتكفي عن ذلك الصفات ، قالوا : والأظهر أن الركن في تعريف ذوات الأمثال ذكر الصفات وذكر القيمة مستحب في ذوات القيم ، الركن القيمة ، وذكر الصفات مستحب ، ثم يكتب القاضي إلى قاضي بلد المال بما جرى عنده من مجرد قيام البينة ، أو مع الحكم إن جوزنا الحكم المبرم ، فإن أظهر الخصم هناك عبدا آخر بالاسم والصفات المذكورة في يده ، أو في يد غيره ، فقد صار القضاء مبهما ، وانقطعت المطالبة في الحال ، كما سبق في المحكوم عليه ، وإن لم يأت بدافع ، فإن كان الكتاب كتاب حكم ، وجوزناه ، حلف المدعي أن هذا المال هو الذي شهد به شهوده عند القاضي فلان ، وتسلم إليه ، ذكره ابن القاص في كتاب آداب القضاء ، وإن كان كتاب سماع البينة ، انتزع المكتوب إليه المال ، وبعثه إلى الكاتب ، ليشهد الشهود على عينه ، وفي طريقه قولان ، أظهرهما وأشهرهما وبه قطع ابن الصباغ وغيره : يسلم إلى المدعي ، ويؤخذ منه كفيل ببدنه .

وقال أبو الحسن العبادي : يكفله قيمة المال ، فإن ذهب إلى القاضي الكاتب ، وشهد الشهود على عينه [ ص: 190 ] وسلم به ، كتب القاضي بذلك إبراء الكفيل وإلا فعلى المدعي الرد ، ومؤنته ، ويختم العين عند تسليمها إليه بختم لازم ، فإن كان عبدا ، جعل في عنقه القلادة ، ويختم عليها ، والمقصود من الختم أن لا يبدل المأخوذ بما لا يستريب الشهود في أنه له ، وأخذ الكفيل واجب ، والختم مستحب ، وعلى هذا القول لو كان للمدعي جارية ، فثلاثة أوجه ، أحدها : أنها كالعبد ، والثاني : لا تبعث أصلا ، والثالث : تسلم إلى أمين في الرفقة لا إلى المدعي ، وهذا حسن .

قلت : هذا الثالث هو الصحيح أو الصواب ، والله أعلم .

ثم المفهوم من كلام الجمهور أن الشهود إذا شهدوا على عينه عند الكاتب ، سلمه إلى المدعي ، وقد تم الحكم له ، ثم يكتب إبراء الكفيل على ما ذكرنا ، وفي " الفروق " للشيخ أبي محمد أنه يختم على رقبته ختما ثانيا ، ويكتب بأني حكمت به لفلان ، ويسلمه إلى المكتوب له ، ليرده إلى القاضي الثاني ، فيقرأ الكتاب ، ويطلق الكفيل ، ويسلم العبد إلى المدعي .

والقول الثاني أن القاضي بعد الانتزاع يبيعه للمدعي ، ويقبض منه الثمن ، ويضعه عند عدل ، أو يكفله بالثمن ، فإن سلم للمدعي بشهادة الشهود على عينه عند القاضي الكاتب ، كتب برد الثمن ، أو براءة الكفيل ، وبان بطلان البيع ، وإلا فالبيع صحيح ، ويسلم الثمن إلى المدعى عليه ، وهذا بيع يتولاه القاضي للمصلحة ، كما يبيع الضوال ، وحكى الفوراني بدل هذا القول أنه يسلم إليه المال ، ويأخذ القيم ويدفعها إلى المدعى عليه للحيلولة بينه وبين ما يزعمه ملكا له ، ثم يسترد هذه القيمة ، سواء ثبت المال للمدعي أم لا .

[ ص: 191 ] الحالة الثانية : أن تكون العين المدعاة غائبة عن مجلس الحكم دون البلد ، فإن كان الخصم حاضرا أمر بإحضاره لتقوم البينة على عينها ، ولا تسمع الشهادة على صفتها هذا [ هو ] الجواب في فتاوى القفال .

ويشبه أن يجيء فيه وجه فيما إذا كان المدعى عليه في البلد ، هل تسمع الشهادة عليه مع غيبته عن المجلس ؟ ثم إنما يؤمر بإحضار ما يمكن إحضاره بتيسر فأما ما لا يمكن ، كالعقار ، فيحده المدعي ويقيم البينة عليه بتلك الحدود ، فإن قال الشهود : نعرف العقار بعينه ، ونعرف الحدود ، بعث القاضي من يسمع البينة على عينه ، أو حضر بنفسه ، فإن كان المشار إليه بالحدود المذكورة في الدعوى ، حكم وإلا فلا ، ولو كان العقار مشهورا لا يشتبه ، فلا حاجة للتحديد ، وأما ما يعسر إحضاره كشيء ثقيل ، وما أثبت في الأرض ، أو ركب في الجدار ، وأورث قلعه ضررا ، فيصفه المدعي ، ويحضر القاضي عنده ، أو يبعث من يسمع الشهادة على عينه ، وإن لم يمكن وصفه حضر القاضي عنده ، أو بعث من يسمع الدعوى على عينه ، وذكر الغزالي أن العبد المدعى لو كان يعرفه القاضي حكم به دون الإحضار ، وجعل هذه الصورة كالمستثناة عن صورة وجوب الإحضار . وهذا الذي قاله إن أراد به العبد المعروف بين الناس ، فهو صحيح كما ذكرنا في العقار المعروف والعبد المشهور الغائب عن البلد ، فأما إن اختص القاضي بمعرفته ، فإن كان عالما بصدق المدعي ، وحكم بعلمه تفريعا على جوازه ، فهو قريب أيضا ، وإن حكم بالبينة فالبينة تقوم على الصفة ، فإذا لم يسمع البينة [ بالصفة ] ، وجب أن يمتنع الحكم ومتى أوجبنا الإحضار ، فذلك إذا اعترف المدعى عليه باشتمال يده على مثل تلك العين ، وإن أنكر اشتمال يده على غير تلك الصفة ، صدق بيمينه ، فإن حلف كان للمدعي أن يدعي عليه القيمة ، لاحتمال أنها هلكت ذكره البغوي وغيره .

وإن نكل وحلف المدعي [ ص: 192 ] أو أقام بينة حين أنكر ، كلف إحضارها وحبس ، ولا يطلق إلا بالإحضار ، أو بأن يدعي التلف ، فتؤخذ منه القيمة ، وتقبل منه دعوى التلف ، وإن كانت خلاف قوله الأول للضرورة ، وقيل : لا يطلق إلا بالإحضار ، أو بينة التلف ، فإن لم يدر المدعي أن العين باقية ليطالب بها ، أو تالفة ليطالب بقيمتها فادعى على التردد ، وقال : غصب مني كذا ، فإن كان باقيا ، فعليه رده ، وإن كان تالفا ، فقيمته ، فوجهان أحدهما : لا يسمع دعواه ، لعدم الجزم ، بل يدعي العين ، ويحلف عليها ، ثم ينشئ دعوى القيمة ، ويحلف عليها ، وأصحهما وعليه عمل القضاء : يسمع للحاجة فيه ، وعلى هذا يحلف أنه لا يلزمه رد العين ، ولا قيمتها ، ويجري الوجهان فيما لو سلم ثوبا إلى دلال ليبيعه فطالبه به ، فجحد ، فلم يدر صاحب الثوب أباعه فيطالبه بالثمن ، أم تلف فيطالبه بالقيمة ، أم هو باق ليطالبه بالعين ؟ فعلى الأول يدعي العين في دعوى ، والقيمة في أخرى ، والثمن في أخرى ، وعلى الثاني يدعي أن عليه رد الثوب أو ثمنه أو قيمته ، ويحلف الخصم يمينا واحدة أنه لا يلزمه تسليم الثوب ولا ثمنه ولا قيمته ، ولو شهدوا أنه غصب منه عبدا بصفة كذا ، فمات العبد استحق بتلك الشهادة قيمته على تلك الصفة .

وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان الخصم حاضرا ، فإن كان غائبا والمال في البلد ، كما وصفنا أحضر مجلس الحكم أيضا ، وأخذ ممن في يده ليشهد الشهود على عينه .

التالي السابق


الخدمات العلمية