صفحة جزء
كتاب الشهادات

فيه ستة أبواب :

الأول : فيما يفيد أهلية الشهادة ، ولها شروط ، منها التكليف والحرية والإسلام ، فلا تقبل شهادة صبي ولا مجنون ، ولا من فيه رق ، ولا كافر ما ، سواء شهد على مسلم أو كافر .

الشرط الرابع العدالة . فالمعاصي صغائر وكبائر ، وقال الأستاذ أبو إسحاق : ليس فيها صغيرة ، والصحيح الأول ، وفي حد الكبيرة أوجه أحدها : أنها المعصية الموجبة لحد ، والثاني : أنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة ، وهذا أكثر ما يوجد لهم ، وهم إلى ترجيح الأول أميل ، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر ، والثالث ما قاله الإمام في " الإرشاد " وغيره : كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، فهي مبطلة للعدالة .

والرابع قال أبو سعد الهروي : الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه ، أو وجب في جنسه حد من قتل أو غيره ، وترك فريضة تجب على الفور ، والكذب في الشهادة والرواية واليمين ، هذا ما ذكروه على سبيل الضبط . وفصله جماعة ، فعدوا من الكبائر القتل والزنى واللواط ، وشرب قليل الخمر ، والسرقة ، والقذف ، وشهادة الزور ، وغصب المال - وشرط الهروي في المغصوب كونه نصابا - والفرار من الزحف ، وأكل الربا ومال اليتيم ، وعقوق [ ص: 223 ] الوالدين ، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمدا ، وكتمان الشهادة بلا عذر . وأضاف إليها صاحب " العدة " الإفطار في رمضان بلا عذر ، واليمين الفاجرة ، وقطع الرحم ، والخيانة في كيل أو وزن ، وتقديم الصلاة على وقتها ، أو تأخيرها عنه بلا عذر ، وضرب مسلم بلا حق ، وسب الصحابة - رضي الله عنهم - وأخذ الرشوة ، والدياثة والقيادة من الرجل والمرأة ، والسعاية عند السلطان ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر مع القدرة ، ونسيان القرآن ، وإحراق الحيوان ، وامتناعها من زوجها بلا سبب ، واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله تعالى ، ويقال : الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن .

ومما عد من الكبائر الظهار ، وأكل لحم الخنزير والميتة بلا عذر ، وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال ، كقطع الرحم ، وترك الأمر بالمعروف على إطلاقهما ، ونسيان القرآن ، وإحراق مطلق الحيوان . وقد أشار الغزالي في " الإحياء " إلى مثل هذا التوقف ، وفي " التهذيب " وجه أن ترك صلاة واحدة ليس كبيرة ، ولا ترد به شهادة حتى يعتاده .

قلت : قد روى أبو داود والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عرضت علي ذنوب أمتي ، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أقرئها رجل ، ثم نسيها " لكن في إسناده ضعف ، وتكلم فيه الترمذي . ومن الكبائر السحر ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله من السبع الموبقات ، ونقل المحاملي في كتاب الحيض من " مجموعة " أن الشافعي - رحمه الله - تعالى - قال : [ ص: 224 ] الوطء في الحيض كبيرة ، وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل النميمة كبيرة . والله أعلم .

قال صاحب " العدة " : ومن الصغائر النظر إلى ما لا يجوز ، والغيبة ، والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر ، والإشراف على بيوت الناس ، وهجرة المسلم فوق ثلاث ، وكثرة الخصومات وإن كان محقا ، والسكوت على الغيبة والنياحة والصياح وشق الجيب في المصيبة ، والتبختر في المشي ، والجلوس مع الفساق إيناسا لهم ، والصلاة المنهي عنها في أوقات النهي ، والبيع والشراء في المسجد ، وإدخال الصبيان والمجانين والنجاسات إليه ، وإمامة قوم يكرهونه لعيب فيه ، والعبث في الصلاة ، والضحك ( فيها ) ، وتخطي رقاب الناس يوم الجمعة ، والكلام والإمام يخطب ، والتغوط مستقبل القبلة ، وفي طريق المسلمين ، وكشف العورة في الحمام ، ولك أن تقول : وكثرة خصومات المحق ينبغي أن لا تكون معصية إذا راعى حد الشرع . وتخطي الرقاب ، فإنه معدود من المكروهات لا محرم وكذا الكلام والإمام يخطب على الأظهر .

قلت : المختار أن تخطي الرقاب حرام للأحاديث فيه ، والصواب في الخصومات ما قاله الرافعي ، وأن البيع والشراء في المسجد وإدخاله الصبيان إذا لم يغلب تنجيسهم إياه ، والعبث في الصلاة من المكروهات مشهور في كتب الأصحاب ، وفي كون الصلاة في وقت النهي مكروهة أو محرمة خلاف سبق .

ومن الصغائر القبلة للصائم الذي يحرك الشهوة ، والوصال في الصوم على الأصح ، والاستمناء وكذا مباشرة الأجنبية بغير جماع ، ووطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير والرجعية ، والخلوة بالأجنبية ، ومسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ، ولا نسوة [ ص: 225 ] ثقات ، والنجش والاحتكار ، والبيع على بيع أخيه ، وكذا السوم والخطبة ، وبيع الحاضر للبادي ، وتلقي الركبان ، والتصرية ، وبيع المعيب من غير بيانه ، واتخاذ الكلب الذي لا يحل اقتناؤه ، وإمساك الخمر غير المحترمة ، وبيع العبد المسلم لكافر ، وكذا المصحف وسائر كتب العلم ، واستعمال النجاسة في البدن بغير حاجة ، وكشف العورة في الخلوة لغير حاجة على الأصح ، وأشباه هذه . والله أعلم .

إذا تقرر هذا فقال الأصحاب : يشترط في العدالة اجتناب الكبائر ، فمن ارتكب كبيرة واحدة ، فسق ، وردت شهادته ، وأما الصغائر ، فلا يشترط اجتنابها بالكلية ، لكن يشترط أن لا يصر عليها ، فإن أصر كان الإصرار كارتكاب كبيرة ، وهل الإصرار السالب للعدالة المداومة على نوع من الصغائر ، أم الإكثار من الصغائر ، سواء كان من نوع أو أنواع ؟ فيه وجهان ، ويوافق الثاني قول الجمهور أن من غلبت طاعته معاصيه ، كان عدلا ، وعكسه فاسق ، ولفظ الشافعي - رحمه الله - في " المختصر " يوافقه ، فعلى هذا لا تضر المداومة على نوع من الصغائر إذا غلبت الطاعات ، وعلى الأول يضر .

فرع

اللعب بالشطرنج مكروه ، وقيل : مباح لا كراهة فيه ، ومال الحليمي إلى تحريمه ، واختاره الروياني ، والصحيح الأول ، فإن اقترن به قمار أو فحش أو إخراج صلاة عن وقتها عمدا ، ردت شهادته بذلك المقارن وإنما يكون قمارا إذا شرط المال من الجانبين ، فإن أخرج [ ص: 226 ] أحدهما ليبذله إن غلب ، ويمسكه إن غلب ، فليس بقمار ، ولا ترد به شهادة ، لكنه عقد مسابقة على غير آلة قتال ، فلا يصح . ولو لم تخرج الصلاة عن الوقت عمدا ، لكن شغله اللعب به حتى خرج وهو غافل ، فإن لم يتكرر ذلك منه ، لم ترد شهادته ، وإن كثر منه ، فسق ، وردت شهادته بخلاف ما إذا تركها ناسيا مرارا ؛ لأنه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة هكذا ذكروه ، وفيه إشكال لما فيه من تعصية الغافل اللاهي ، ثم قياسه الطرد في شغل النفس بغيره من المباحات ، وأشار الروياني إلى وجه أنه يفسق وإن لم يتكرر ، وفي " المهذب " اشتراط التكرر في إخراجها عن الوقت وإن كان عالما وهو خلاف ما سبق أن إخراج الفريضة عن الوقت عمدا كبيرة .

وأما اللعب بالنرد ففي وجه مكروه والصحيح تحريمه ، فعلى هذا قال الشيخ أبو محمد : هو صغيرة ، قال الإمام : والصحيح أنه من الكبائر ، قال في " الأم " وأكره اللعب بالحزة والقرق ، فالحزة : قطع خشب يحفر فيها حفر في ثلاثة أسطر يجعل فيها حصى صغار يلعب بها وقد تسمى الأربعة عشر ، والقرق : أن يخط في الأرض خط مربع ، ويجعل في وسطه خطان كالصليب ، ويجعل على رءوس الخطوط حصى صغار يلعب بها . وهذه اللفظة رأيتها بخط الروياني بفتح القاف والراء ، وضبطها بعضهم بكسر القاف وإسكان الراء ، قال في " الشامل " اللعب بهما كالنرد وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه كالشطرنج .

فرع

اتخاذ الحمام للفرخ والبيض ، أو الأنس ، أو حمل الكتب جائز بلا كراهة ، وأما اللعب بها بالتطيير والمسابقة ، فقيل : لا يكره ، [ ص: 227 ] والصحيح أنه مكروه ، ولا ترد الشهادة بمجرده ، فإن انضم إليه قمار ونحوه ردت .

التالي السابق


الخدمات العلمية