صفحة جزء
الباب الثالث في مستند علم الشاهد ، وحكم تحمل الشهادة وأدائها .

فيه ثلاثة أطراف .

الأول : فيما يحتاج إلى الإبصار ، والأصل في الشهادة البناء على العلم واليقين ، لكن من الحقوق ما لا يحصل اليقين فيه ، فأقيم الظن المؤكد فيه مقام اليقين ، وجوزت الشهادة بناء على ذلك الظن كما سيأتي - إن شاء الله تعالى ، وقد قسم الشافعي والأصحاب رحمهم الله المشهود به ثلاثة أقسام أحدها : ما يكفي فيه السماع ، ولا يحتاج إلى الإبصار ، وموضع بيانه الطرف الثاني .

الثاني : ما يكفي فيه الإبصار وهو الأفعال ، كالزنى ، والشرب ، والغصب ، والإتلاف ، والولادة ، والرضاع ، والاصطياد ، والأحياء ، وكون المال في يد الشخص ، فيشترط فيها الرؤية المتعلقة بها وبفاعلها ، فلا يجوز بناء الشهادة فيها على السماع من الغير ، وتقبل فيها شهادة الأصم .

الثالث : ما يحتاج إلى السمع والبصر معا ، كالأقوال ، فلا بد من سماعها ومشاهدة قائلها ، وذلك كالنكاح والطلاق ، والبيع ، وجميع العقود ، والفسوخ ، والإقرار بها ، فلا يقبل فيها شهادة الأصم الذي [ ص: 260 ] لا يسمع شيئا ، ولا تقبل شهادة الأعمى فيما يحتاج إلى الإبصار ، ولا يصح منه التحمل اعتمادا على الصوت ، فإن الأصوات تتشابه ويتطرق إليها التخييل والتلبيس مع أنه لا ضرورة إلى شهادته للاستغناء بالبصراء بخلاف الوطء ، فإن له أن يطأ زوجته اعتمادا على صوتها بالإجماع للضرورة ، ولأن الوطء يجوز بالظن ، ولا تقبل شهادته على زوجته التي يطأها كما لا تقبل على الأجانب ؛ لأن الوطء ضرورة ، وقد سبق وجه أن العمى لا يقدح في القضاء وهو مع ضعفه جار في الشهادة ، والصواب المنع .

ويستثنى عن هذا صورة الضبطة وهي أن يضع رجل فمه على أذنه ويد الأعمى على رأسه ، فينظر إن سمعه يقر بطلاق أو عتق أو لرجل معروف الاسم والنسب بمال ، ويتعلق به الأعمى ، ولا يزال يضبطه حتى يشهد بما سمع منه عند القاضي ، فيقبل هذه الشهادة على الصحيح لحصول العلم ، وقيل : لا يقبل سدا للباب مع عسر ذلك .

وتقبل رواية الأعمى ما سمعه حال العمى على الصحيح ، وبه قطع الجمهور إذا حصل الظن الغالب بضبطه ، واختار الإمام المنع ، فأما ما سمعه قبل العمى ، فتقبل روايته في العمى بلا خلاف ، ولو تحمل شهادة تحتاج إلى البصر وهو بصير ، ثم عمي ، نظر إن تحمل على رجل معروف الاسم والنسب يقر لرجل بهذه الصفة ، فله أن يشهد بعدما عمي ، ويقبل لحصول العلم ، وكذا لو عمي ويد المقر في يده ، فشهد عليه لمعروف الاسم والنسب . وإن لم يكن كذلك ، لم تقبل شهادته ، ويجوز الاعتماد على ترجمة الأعمى على الأصح ، ولو عمي القاضي بعد سماع البينة وتعديلها ، ففي نفوذ قضائه في تلك [ ص: 261 ] الواقعة وجهان ، أحدهما لا ، لانعزاله بالعمى ، كما لو انعزل بسبب آخر ، وأصحهما : نعم إن لم يحتج إلى الإشارة ، كما لو تحمل الشهادة وهو بصير ، ثم عمي ، وأما شهادة الأعمى فيما يثبت بالاستفاضة ، فسيأتي في الطرف الثاني - إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية