صفحة جزء
فصل

هل يثبت الوقف بشاهد ويمين ، إن قلنا : الملك فيه للواقف أو الموقوف عليه ، فنعم ، وإن قلنا : لله تعالى ، فوجهان ، أو قولان ، أحدهما : لا ، وبه قال المزني وأبو إسحاق كالعتق ، والثاني : نعم ، وبه قال ابن سريج وابن سلمة ، والعراقيون يميلون إلى ترجيح الأول ، وينسبونه إلى عامة الأصحاب ، لكن الثاني أقوى في المعنى وهو المنصوص ، وصححه الإمام والبغوي وغيرهما ، وجزم به الغزالي .

ولو ادعى ورثة ميت على رجل أنه غصب هذه الدار ، وقالوا : كانت [ ص: 285 ] لأبينا وقفها علينا وعلى فلان ، تثبت دعوى الغصب بشاهد ويمين ، ويثبت بهما أيضا الوقف إن أثبتناه بشاهد ويمين ، وإلا فيثبت بإقرارهم . ولو مات عن بنين ، فادعى ثلاثة منهم أن أباهم وقف عليهم هذه الدار ، وأنكر سائر الورثة ، فأقاموا شاهدا ليحلفوا معه تفريعا على ثبوت الوقف بشاهد ويمين ، فلدعواهم صورتان إحداهما :

أن يدعوا وقف ترتيب ، فيقولوا : وقف علينا وبعدنا على أولادنا وعلى الفقراء ، فلهم بعد إقامة البينة ثلاثة أحوال : أن يحلفوا جميعا ، فيثبت الوقف ، ولا حق لسائر الورثة في الدار ، فإذا انقرض المدعون ، أخذ البطن الثاني الدار وقفا ، وهل يأخذونه بيمين أم بلا يمين ؟ وجهان ، ويقال قولان ، الأصح عند الجمهور : بلا يمين وهو ظاهر نصه في " المختصر " وإذا انتهى الاستحقاق إلى البطن الثالث والرابع عاد الخلاف ، فإن قلنا : يأخذون بيمين مكان الحق بعد البنين الثلاثة للفقراء ، نظر إن كانوا محصورين ، كفقراء قرية ومحلة ، فكذلك الجواب ، وإن لم يكونوا محصورين فهل يبطل الوقف وتعود الدار إرثا ، أم يصرف إليهم بلا يمين أم يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف بناء على تعذر مصرفه كالوقف المنقطع ؟ فيه ثلاثة أوجه .

قلت : الأصح يأخذون بلا يمين وتسقط هنا لتعذرها ولا يبطل الوقف بعد صحته ووجود المصرف بخلاف المنقطع . والله أعلم .

ولو مات أحد الحالفين ، صرف نصيبه إلى الآخرين ، فإن مات آخر ، صرف الجميع إلى الثالث ؛ لأن استحقاق البطن الثاني إنما هو بعد انقراض الأولين ، ثم أخذ الآخرين يكون بلا يمين على المذهب ، وقيل : وجهان كالبطن الثاني .

[ ص: 286 ] الحال الثاني : أن ينكلوا جميعا عن اليمين مع الشاهد ، فالدار تركة يقضى منها الدين والوصية ، ويقسم الباقي بين الورثة ، ويكون حصة المدعين وقفا بإقرارهم ، وحصة سائر الورثة طلقا لهم ، فإذا مات المدعون ، لم يصرف نصيبهم إلى أولادهم على سبيل الوقف إلا بيمين على الأصح ، وقيل : يصرف إليهم وقفا بلا يمين ، ولو أراد الأولاد أن يحلفوا ويأخذوا جميع الدار وقفا ، فلهم ذلك على الأظهر ، لأنهم أصحاب حق ، فإذا أبطل آباؤهم حقهم بالنكول ، فلهم أن لا يبطلوا حقهم ، ويجري القولان ، سواء قلنا : لو لم يحلفوا لا يكون شيء منها وقفا ، أم قلنا : حصة الأولين تبقى وقفا ، وإن لم يحلفوا ، وهل يجري القولان في حياة الأولين إذا نكلوا ؟ وجهان ، أحدهما : نعم ، لبطلان حقهم ، وتعذر الصرف إليهم بنكولهم ، كما لو ماتوا ، وأصحهما : لا ؛ لأن استحقاق البطن الثاني شرطه انقراض الأول .

الحال الثالث : أن يحلف بعضهم دون بعض ، فإذا حلف واحد ، ونكل اثنان ، أخذ الحالف الثلث وقفا ، وأما الباقي ، فهو تركة تقضى منها الديون والوصايا ، فما فضل ، ففيه وجهان ، قال في " الشامل " : يقسم بين جميع الورثة ، فما خص البنين الثلاثة كان وقفا على الناكلين ؛ لأن الحالف معترف لهما بذلك .

والأصح وبه قطع المحاملي والبغوي وغيرهما أنه يقسم بين المنكرين من الورثة واللذين نكلا دون الحالف ؛ لأنه مقر بانحصار حقه فيما أخذ ، ثم حصة الناكلين تكون وقفا بإقرارهما ، فإذا مات الناكلان والحالف حي ، فنصيبهما للحالف على ما شرط الواقف بإقرارهما ، وفي اشتراط يمينه الوجهان ، فإذا مات الحالف ، فالاستحقاق للبطن الثاني ، وفي حلفهم الخلاف السابق ، وإن كان الحالف ميتا عند موت الناكلين ، فأراد أولادهما أن يحلفوا ، فعلى القولين السابقين في أولاد الجميع إذا نكلوا ، الأظهر لهم الحلف ، وفي نصيب الحالف الميت [ ص: 287 ] قبلهما ثلاثة أوجه :

أحدها : يصرف إلى الناكلين ، فعلى هذا في حلفهما الخلاف ، فإن قلنا : يحلفان ، فنكلا سقط هذا الوجه ، والثاني : يصرف إلى البطن الثاني ، وهو الأصح عند الجمهور ، وهو ظاهر إشارته في " الأم " لأنهما أبطلا حقهما بنكولهما ، وصارا كالمعدومين . والثالث أنه وقف تعذر مصرفه ، فعلى هذا هل يبطل أم يبقى ، وإذا بقي فهل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف أم كيف حاله ؟ فيه خلاف سبق في الوقف بتفريعه ، والمذهب أنه يبقى وقفا ، ويصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف ، فعلى هذا إذا زال التعذر بموت الناكلين ، صرف إلى البطن الثاني ، ويجيء في حلف أقرب الناس إذا قلنا : يصرف إليهم الخلاف .

فرع

إذا تصادقت الورثة على أن الدار وقف أبيهم ، ثبت الوقف ، ولا حاجة إلى شاهد ويمين .

فرع

ادعوا على رجل دارا في يده أنه وقفها عليهم ، أو على ورثة أن مورثهم وقفها عليهم وأقاموا شاهدا نظر : أحلفوا مع شاهدهم ، أم نكلوا ، أم حلف بعضهم ، ونكل بعضهم ، وتجيء الأحوال الثلاثة كما سبق ، لكن حيث جعلنا كل المدعى أو بعضه تركة هناك ، ترك هنا في يد المدعى عليه .

الصورة الثانية : أن يدعوا وقف تشريك ، فيقول البنون الثلاثة في المثال المذكور : هو وقف علينا وعلى أولادنا وأولاد أولادنا ما تناسلنا ، [ ص: 288 ] فإذا انقرضنا ، فعلى الفقراء ، فأقاموا بذلك شاهدا ، وإن حلفوا معه أخذوا الدار وقفا ، ثم إذا حدث لأحدهم ولد ، فمقتضى الوقف شركته ، فيوقف ربع الغلة إلى أن يبلغ ، فيصرف إليه إن حلف ، ولم يجعلوه على الخلاف في أن البطن الثاني هل يحتاجون إلى يمين إذا حلف البطن الأول ، بل جزموا باحتياجه إلى اليمين بعد البلوغ إلا السرخسي ، فحكى فيه وجها .

ثم إن الربع الموقوف هل يوقف في يد البنين الثلاثة ، أم ينتزع ، ويجعله في يد أمين ؟ وجهان أصحهما : الثاني ، فإن نكل بعد بلوغه صرف الموقوف إلى الثلاثة ، وجعل كأنه لم يولد ، هذا هو المنصوص ، وبه قال الجمهور ، وحكي وجه أو تخريج أن نصيب المولود وقف تعذر مصرفه ، فيجيء الخلاف السابق ؛ لأن الثلاثة معترفون بأنه له ، فكيف يأخذونه بامتناعه باليمين ، ولو مات بعد البلوغ والنكول ، لم يستحقها .

فأما رقبة الوقف وغلتها بعد موت الولد ، فمقتضى الشرط أن يستغرقها الثلاثة الحالفون ، وليس عليهم تجديد يمين على المذهب ، وكأن المولود لم يكن . ولو مات أحد الحالفين في صغر الولد وقف من يوم موته للولد ثلث الغلة ؛ لأن المستحقين صاروا ثلاثة فإن بلغ وحلف ، أخذ الربع والثلث الموقوفين ، وإن نكل صرف الربع إلى الابنين الباقيين وورثة الميت ، وصرف الثلث إلى الباقين خاصة ، ويعود فيه التخريج السابق .

ولو بلغ الولد مجنونا أدمنا الوقف طمعا في إفاقته ، فإن ولد له قبل أن يفيق وقف له الخمس ، وللمولود الخمس من يوم ولادة الولد ، فإن أفاق المجنون ، وبلغ ولده وحلفا ، أخذ المجنون الربع من يوم ولادته إلى يوم ولادة ولده ، والخمس من يومئذ ، وأخذ ولده الخمس من يومئذ . ولو مات المجنون في جنونه [ ص: 289 ] بعدما ولد ولد له ، فالقلة الموقوفة لورثته إذا حلفوا ، ويوقف لولده من يوم ثبوته ربع الغلة ، هذا كله إذا حلف المدعون الثلاثة أولا ، فإن نكلوا عن اليمين مع الشاهد ، فلمن حدث بعدهم أيحلف بلا خلاف ؛ لأنه شريك الأولين بتلقي الوقف من الواقف لا محالة ، وإن حلف بعضهم دون بعض ، أخذ الحالف نصيبه ، وبقي الباقي على ما كان . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية