صفحة جزء
فصل

المدعي إذا ردت اليمين عليه قد يحلف ، وقد يمتنع ، فإن حلف استحق المدعى ، وهل يمينه بعد نكول المدعى عليه كالبينة ، أم كإقرار المدعى عليه ؟ فيه قولان ، أظهرهما الثاني ، ويتفرع عليهما مسائل كثيرة مذكورة في مواضعها . ومنها أن المدعى عليه لو أقام بينة بالأداء أو الإبراء بعد ما حلف المدعي ، فإن قلنا : يمينه كالبينة ، سمعت بينة المدعى عليه ، وإن قلنا : كالإقرار ، فلا ، لكونه مكذبا للبينة بالإقرار ، [ ص: 46 ] وهل يجب الحق بفراغ المدعي من اليمين المردودة ، أم لا بد من حكم الحاكم بالحق ؟ وجهان ، حكاهما الهروي ، الأرجح الأول ، أما إذا امتنع المدعي من الحلف ، فيسأله القاضي عن امتناعه ، فإن لم يتعلل بشيء أو قال : لا أريد الحلف ، فهذا نكول يسقط حقه من اليمين ، وليس له مطالبة الخصم وملازمته ، وهل يتمكن من استئناف الدعوى ، وتحليفه في مجلس آخر ، فإن نكل حلف المدعي ، أم لا يتمكن من ذلك ، ولا ينفعه بعده إلا البينة ؟ وجهان ، الذي ذكره العراقيون ، والهروي والروياني الأول ، وبالثاني قال الإمام والغزالي والبغوي ، وهو أحسن وأصح ، لئلا تتكرر دعواه في القضية الواحدة ، وإن ذكر المدعي لامتناعه سببا ، فقال : أريد أن آتي بالبينة أو أسأل الفقهاء ، أو أنظر في الحساب ، ترك ولم يبطل حقه من اليمين وهل تقدر مدة الإمهال بثلاثة أيام ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، لئلا تطول مدافعته ، والثاني : لا تقدير ؛ لأن اليمين حقه ، فله تأخيره إلى أن يشاء كالبينة . ولم يذكر الشافعي رحمه الله فيما إذا امتنع المدعى عليه من اليمين أنه يسأل عن سبب امتناعه ، فقال ابن القاص : قياس ما ذكره في امتناع المدعي أن يسأل المدعى عليه عن سبب امتناعه أيضا ، وامتنع عامة الأصحاب من هذا الإلحاق فارقين بأن امتناع المدعى عليه أثبت للمدعي حق الحلف ، والحكم بيمينه ، فلا يؤخر حقه بالسؤال ، وامتناع المدعي لا يثبت حقا لغيره ، فلا يضر السؤال . ولو قال المدعى عليه حين استحلف : أمهلوني لأنظر في الحساب ، أو أسأل الفقهاء ، فهل يمهل ثلاثة أيام ، أم لا يمهل شيئا إلا برضا المدعي ؟ وجهان ، أصحهما وأشهرهما الثاني ؛ لأنه مقهور محمول على الإقرار ، أو اليمين بخلاف المدعي ، فإنه مختار في طلب حقه وتأخيره ، ولو استمهل المدعى عليه [ ص: 47 ] في ابتداء الجواب لينظر في الحساب ، وذكر الهروي أنه ينظر إلى آخر المجلس إن شاء . ولو علل المدعي امتناعه بعذر كما ذكرنا ، ثم عاد بعد مدة ليحلف ، مكن منه ، وإن لم يتذكر القاضي نكول خصمه ، أثبته بالبينة ، وكذا لو أثبت عند قاض آخر نكول خصمه له أن يحلف ، وكذا لو نكل المدعى عليه في جواب وكيل المدعي ، ثم حضر الموكل له أن يحلف ، ولا يحتاج إلى استئناف دعوى ، ولو أقام المدعي شاهدا ليحلف معه ، فلم يحلف ، فهو كما لو ارتدت اليمين إليه ، فلم يحلف ، فإن علل امتناعه بعذر ، عاد الوجهان في أنه على خيرته أبدا ، أم لا يزاد على ثلاثة أيام ؟ وإن لم يعلل بشيء ، أو صرح بالنكول ، فقد ذكر الغزالي والبغوي أنه يبطل حقه من الحلف ، وليس له العود إليه ، واستمر العراقيون على ما ذكروه هناك ، قال الأصحاب : لو امتنع من الحلف مع شاهده ، واستحلف الخصم ، انقلبت اليمين من جانبه إلى جانب صاحبه ، فليس له أن يعود ويحلف إلا إذا استأنف الدعوى في مجلس آخر ، وأقام الشاهد ، فله أن يحلف معه ، وعلى الأول لا ينفعه إلا بينة كاملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية