صفحة جزء
الباب الخامس في البينة

أما صفة الشهود ، فسبق بيانها في الشهادات ، والمقصود هنا بيان حكم تعارض البينتين ، وتعارضهما قد يقع في الأملاك ، وقد يقع في غيرها ، كالعقود ، والموت ، والوصية ، ويشتمل الباب على أربعة أطراف :

[ ص: 51 ] الأول في الأملاك ، فإذا تعارضتا فيه ، فإما أن يفقد أسباب الرجحان ، وإما لا ، القسم الأول أن يفقد ، فإما أن يكون المدعى في يد ثالث ، وإما في أيديهما ، ولا يدخل في هذا القسم ما إذا كان في يد أحدهما ؛ لأن ذلك من أسباب الرجحان .

الحالة الأولى : إذا ادعى اثنان عينا في يد ثالث ، فلا يخفى أن المدعى عليه يحلف لكل واحد منهما يمينا إن ادعاها لنفسه ، ولا بينة لواحد منهما ، وأنه لو اختص أحدهما ببينة على ما يدعيه ، قضي له ، وإن أقام كل واحد بينة ، تعارضتا ، وفيهما قولان أظهرهما : يسقطان ، فكأنه لا بينة فيصار إلى التحليف ، والثاني : يستعملان ، فينتزع العين ممن هي في يده .

ثم في كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال ، أحدها : تقسم العين المدعاة بينهما ، والثاني : توقف إلى تبين الأمر أو يصطلحا ، والثالث : يقرع ، فيأخذها من خرجت قرعته ، وهل يحتاج معها إلى يمين ؟ قولان ، أحدهما لا ، والقرعة مرجحة لبينته ، والثاني نعم ، والقرعة تجعل أحدهما أحق باليمين ، فعلى هذا يحلف من خرجت قرعته أن شهوده شهدوا بالحق ، ثم يقضى له ، ثم قيل القولان في الأصل فيما إذا لم تتكاذب البينتان صريحا ، فإن تكاذبتا سقطتا قطعا ، والأشهر طردهما في الحالين ، وصريح التكاذب أن لا يمكن الجمع بتأويل ، بأن شهدت إحداهما بقتله في وقت ، والأخرى بجناية في ذلك الوقت ، فإن أمكن الجمع بتأويل ، فليس تكاذبا بأن شهدت هذه أنه ملك زيد ، وهذه أنه ملك عمرو ، فإنه يحتمل أن كل واحدة علمت سببا ، كشراء ووصية ، واستصحب حكمه ، أو شهدت هذه بأنه أوصى به لزيد ، وهذه أنه [ ص: 52 ] أوصى به لعمرو ، فإنه يحتمل الإيصاء مرتين ، وقيل : القولان إذا لم يمكن الجمع ، فإن أمكن قسم قطعا ، وقيل : إن لم يمكن سقطتا قطعا وإلا استعملتا قطعا ، كما في الوصية . وقيل : يبقى قول التوقيف ، وقيل : لا تجتمع الأقوال الثلاثة بل موضع القسمة إذا أمكن الجمع ، والقرعة إذا لم يمكن ، والمذهب ما سبق ، فلو تنازعا في زوجية امرأة ، أقام كل واحد بينة ، وتعارضتا ، فقول السقوط بحاله ، ولا مجال للقسمة ، ولا للقرعة على الأصح ، ويجيء الوقف على الصحيح لو أقر صاحب اليد لأحدهما بعدما أقاما البينتين ، إن قلنا بالسقوط ، قبل إقراره ، وحكم به ، وإن قلنا بالاستعمال ، فوجهان ، أحدهما : يصير المقر له كصاحب يد ، فترجح بينته ، والثاني : لا ؛ لأن يده بعد البينة مستحقة الإزالة ، وإن أقر قبل تمام البينتين قبل إقراره قطعا ، وصار المقر له صاحب يد .

الحالة الثانية : أن تكون العين في يدهما وادعاها كل واحد ، فإن أقامتا بينتين ، فطريقان ، أحدهما - وبه قال الفوراني والغزالي - يجيء القولان في السقوط والاستعمال ، فإن أسقطنا بقي المال في أيديهما كما كان ، وإن استعملنا فعلى قول القسمة يجعل بينهما ، ولا يجيء الوقف ، وفي القرعة وجهان ، والثاني - وبه قال ابن الصباغ والبغوي - يجعل المال بينهما ؛ لأن بينة كل واحد ترجحت في النصف الذي في يده ، والحاصل للفتوى من الطريقين بقاء المال في يدهما كما كان ، ولو شهدت بينة كل واحد له بالنصف الذي في يد صاحبه ، حكم القاضي لكل منهما بما في يد صاحبه ، ويكون المال في يدهما أيضا ، كما كان ، لكن لا لجهة السقوط ، ولا بالترجيح باليد ، ثم قال الأئمة :

[ ص: 53 ] من أقام البينة أولا ، وتعرض شهوده للكل ، لم يضر ، وإن كان صاحب يد في النصف الذي في يده ، وقلنا : بينة صاحب اليد لا تسمع ابتداء كما سيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى ؛ لأنه هنا غير مستغن عن البينة للنصف الذي يدعيه ، ثم إذا أقام الثاني البينة على الكل سمعت ، وترجحت بينته في النصف الذي في يده ، فيحتاج الأول إلى إعادة البينة للنصف الذي في يده ، وقال في " الوسيط " : لا يبعد أن يتساهل في الإعادة ، وإن كان لأحدهما بينة دون الآخر ، قضي له بالكل ، سواء شهد شهوده بالكل ، أم بالنصف الذي في يد صاحبه ، وإن لم يكن لواحد منهما بينة ، فكل واحد مدع في نصف ، ومدعى عليه في نصف ، فيحلف كل واحد على نفي ما يدعيه الآخر ، ولا يتعرض واحد منهما في يمينه ، لإثبات ما في يده ، بل يقتصر على أنه لا حق لصاحبه فيما في يده ، نص عليه وهو المذهب ، ومنه خلاف سبق في باب التحالف في البيع ، فإن حلفا أو نكلا ترك المال في يدهما كما كان ، وإن حلف أحدهما دون الآخر ، قضى للحالف بالكل ، ثم إن حلف الذي بدأ القاضي بتحليفه ، ونكل الآخر بعده ، حلف الأول اليمين المردودة . وإن نكل الأول ، ورغب الثاني في اليمين ، فقد اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادعاه صاحبه ، ويمين الإثبات للنصف الذي ادعاه هو ، فهل يكفيه الآن يمين واحد يجمع فيها النفي والإثبات أم لا بد من يمين للنفي ، وأخرى للإثبات ؟ وجهان ، أصحهما : الأول ، فيحلف أن الجميع له ، ولا حق لصاحبه فيه ، أو يقول : لا حق له في النصف الذي يدعيه ، والنصف الآخر لي .

[ ص: 54 ] فرع

ادعى نصف دار ، وادعى آخر كلها ، وأقام كل واحد بينة ، والدار في يد ثالث ، تعارضتا في النصف ، فإن قلنا بالسقوط ، سقطتا في النصف الذي فيه التعارض ، وأما النصف الآخر ، ففيه طريقان ، قال ابن سريج وأبو إسحاق وغيرهما : فيه قولا تبعيض الشهادة ، فإن بعضناها سلم ذلك النصف لمدعي الكل ، وإلا بطلت في ذلك النصف أيضا ، وصار كما لو لم تكن بينة ، والثاني - وبه قال الشيخ أبو حامد ، وصححه الشيخ أبو علي - : يسلم إليه النصف قطعا ، وإن قلنا بالاستعمال ، سلم النصف لمدعي الكل ، ويقسم النصف الآخر إن قلنا بالقسمة ، وإن قلنا بالقرعة أو بالوقف ، أقرع في النصف أو وقف ، ولو تداعيا كذلك ، والدار في يدهما ، فالقول قول مدعي النصف في النصف الذي في يده ، فإن أقام مدعي الكل بينة ، قضي له الكل ، وإن أقام كل واحد بينة بما يدعيه ، بقيت الدار في يدهما كما كانت . ولو ادعى أحدهما الكل ، والآخر الثلث ، فإن كان في يد ثالث ، فعلى قول السقوط تسقطان في الثلث . وهل تبطل بينة الكل في الثلثين ؟ فيه الطريقان السابقان ، وعلى الاستعمال تجري الأقوال الثلاثة ، وإن كانت في يدهما ، وأقام كل واحد بينة بما يدعي ، فلمدعي الثلث الثلث ، والباقي لمدعي الكل .

دار في يد رجل ادعى زيد نصفها ، فصدقه ، وعمرو نصفها ، فكذبه صاحب اليد وزيد معا ، ولم يدعه أحد منهما لنفسه ، فالنصف [ ص: 55 ] الذي يدعيه المكذب هل يسلم إليه أم يوقف في يد صاحب اليد ، أم ينتزعه ويحفظ إلى ظهور مالكه ؟ فيه ثلاثة أوجه ، حكاها الفوراني .

قلت : أقواها الثالث . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية