صفحة جزء
المسألة الثالثة : في تعذر تحصيل النجوم عند حلولها ، وله أسباب الأول : الإفلاس ، فإذا حل نجم على المكاتب ، وهو عاجز عن أدائه ، أو عن بعضه ، فللسيد فسخ الكتابة ، وله أن يفسخ بنفسه ؛ لأنه فسخ مجمع عليه كفسخ النكاح بالعتق ، وإن شاء رفع إلى الحاكم ليفسخ .

وفي تعليق الشيخ أبي حامد : لأنه إذا ثبت عجزه بإقراره ، أو بالبينة فللسيد فسخ الكتابة .

وينبغي أن لا يشترط إقراره بالعجز ، ولا قيام البينة عليه ؛ لأنا سنذكر إن شاء الله أنه لو امتنع من الأداء ثبت حق الفسخ .

وإذا لم يؤد ، فهو ممتنع ، إذا لم يكن عاجزا . وإذا رفع إلى القاضي ، فلا بد من ثبوت الكتابة ، وحلول النجم عنده .

ومتى فسخت ، سلم للسيد ما أخذه ؛ لأنه كسب عبده ، لكن ما أخذه من الزكاة يسترد ويؤديه . وهذا قد سبق في الزكاة ، وليس هذا الفسخ على الفور ، بل له تأخيره ما شاء ، كفسخ الإعسار .

وإذا استنظره المكاتب استحب أن ينظره ، ثم لا يلزمه الإمهال ، بل له [ ص: 255 ] الرجوع إلى الفسخ متى بدا له . وإذا طالبه بالمال ، فلا بد من الإمهال بقدر ما يخرجه من الصندوق والدكان والمخزن ، ويزن فإن كان ماله غائبا ، فقد أطلق الإمام والغزالي أن للسيد الفسخ ، وليحمل على تفصيل ذكره ابن الصباغ والبغوي وغيرهما ، وهو أنه إن كان على مسافة القصر لم يلزمه التأخير إلى استيفائه ، كما لو كانت له وديعة وإن كان مؤجلا ، أو على معسر ، فلا .

وإن كان الدين على السيد ، وهو من جنس النجوم ، ففيه الخلاف في التقاص ، وإن كان من غير جنسه ، أداه ليصرفه المكاتب في النجوم .

ولو حل النجم وهو نقد ، وللمكاتب عروض ، فإن أمكن بيعها على الفور بيعت ولا فسخ ، وإن احتاج البيع إلى مدة ؛ لكساد وغيره ، فمقتضى كلام الصيدلاني أن لا فسخ .

ورأى الإمام الفسخ كغيبة المال ، وهذا أصح ، وضبط البغوي التأخير للبيع بثلاثة أيام . وقال : لا يلزم أكثر منها .

السبب الثاني : غيبة المكاتب ، فإذا حل النجم ، والمكاتب غائب ، أو غاب بعد حلوله بغير إذن السيد ، فللسيد الفسخ إن شاء بنفسه ، وإن شاء بالحاكم ، وقيل : لا يفسخ بنفسه ، والصحيح الأول فلا يلزمه تأخير الفسخ لكون الطريق مخوفا ، أو المكاتب مريضا .

وإذا فسخ بنفسه ، فليشهد عليه ؛ لئلا يكذبه المكاتب ، وإن رفع إلى الحاكم ، فلا بد أن يثبت عنده حلول النجم وتعذر التحصيل ، ويحلفه الحاكم مع ذلك ؛ لأنه قضاء على الغائب .

قال الصيدلاني : يحلفه أنه ما قبض النجوم منه ، ولا من وكيله ، ولا أبرأه ، ولا أحال به ، ولا يعلم له مال حاضر .

وذكر الحوالة مبني على جواز الحوالة بالنجوم . ولو كان مال المكاتب حاضرا لم يؤد الحاكم النجوم منه ، ويمكن السيد من الفسخ ، [ ص: 256 ] [ لأنه ] ربما عجز نفسه لو كان حاضرا ، ولم يؤد المال .

ولو نظر المكاتب بعد حلول النجم ، وأذن له في السفر ، ثم بدا له في الإنظار لم يكن له الفسخ في الحال ؛ لأن المكاتب غير مقصر هنا ، ولكن يرفع السيد الأمر إلى الحاكم ، ويقيم البينة على الحلول والغيبة ، ويحلف مع ذلك ، ويذكر أنه رجع عن الإنظار ، فيكتب الحاكم إلى حاكم بلد المكاتب ليعرفه الحال ، فإن أظهر العجز كتب به إلى حاكم بلد السيد ليفسخ إن شاء ، وإن قال : أؤدي الواجب ، فإن كان للسيد هناك وكيل سلم إليه ، فإن أبى ثبت حق الفسخ للسيد ، وللوكيل أيضا إن كان وكيلا فيه .

وحكى ابن كج قولا آخر أنه لا فسخ بالامتناع عن التسليم إلى الوكيل ؛ لاحتمال العزل . وإن لم يكن هناك وكيل أمره الحاكم بإيصاله إليه ، إما بنفسه ، وإما بغيره ، ويلزمه ذلك في أول رفقة تخرج ، أو في الحال إن كان لا يحتاج إلى رفقة في ذلك الطريق ، وعلى السيد الصبر إلى أن تمضي مدة إمكان الوصول ، فإن مضت ، ولم يوصله مقصرا ، فللسيد الفسخ .

قال ابن كج : ولو لم يكن في بلد السيد حاكم ، فكتب السيد إلى العبد ، وأعلمه بالحال ، وأمره بالتسليم إلى رجل ، فامتنع فعندي أنه كما لو امتنع بعد كتاب القاضي إذا وقع له العلم به .

وحكى ابن القطان فيه وجهين . قال : وحكى وجهين فيما لو سلم المكاتب إلى وكيل السيد ، وبان أن السيد عزله ، هل يبرأ المكاتب ؟ قال : وعندي أن الوجهين مخصوصان بما إذا قال الحاكم : فلان وكيله ، ولم يأذن بالتسليم إليه ، فإن أمره ، بالتسليم إليه برئ بلا خلاف .

السبب الثالث : الامتناع ، فإذا امتنع المكاتب من أداء النجوم [ ص: 257 ] مع القدرة لم يجب عليه ؛ لأن الحط له ، فلا يجبر عليه ، ولأن الكتابة جائزة من جهة المكاتب ؛ ولأنها تتضمن التعليق بالصفة ، والعبد لا يجبر على الصفة ، فإذا عجز نفسه ، فالسيد بالخيار ، إن شاء فسخ ، وإن شاء صبر ، وإن أراد الفسخ فسخ بنفسه ، ولا يحتاج إلى القاضي .

وهل للمكاتب الفسخ ؟ وجهان ، أحدهما : لا ، إذ لا ضرر عليه في بقائها ، وأصحهما : نعم ، كالمرتهن يفسخ الرهن ، قال الإمام : وتجويز الامتناع من الأداء مع أنه لا يملك الفسخ بعيد .

الرابع : قد سبق أن الكتابة لا تنفسخ بجنون العبد ، فإن أراد السيد الفسخ اشترط أن يأتي الحاكم فيثبت عنده الكتابة ، وحلول النجم ، ويطالب به ، ويحلفه الحاكم على بقاء الاستحقاق ، ثم يبحث ، فإن وجد للمكاتب مالا أداه عن الواجب عليه ليعتق ؛ لأن المجنون ليس من أهل الضرر لنفسه ، فناب عنه الحاكم بخلاف الغائب الذي له مال حاضر .

ثم إن الجمهور أطلقوا أن الحاكم يؤدي عنه . وقال الغزالي : يؤدي إن رأى له مصلحة في الحرية ، وإن رأى أنه يضيع إذا عتق ، لم يؤد ، وهذا حسن ، ولكنه قليل النفع ، مع قولنا : إن للسيد إذا وجد مالا الاستقلال بأخذه ، إلا أن يقال : يمنعه الحاكم من الأخذ والحالة هذه .

وإن لم يجد الحاكم له مالا مكن السيد من الفسخ ، فإذا فسخ عاد المكاتب قنا له ، وعليه نفقته ، فإن أفاق وظهر له مال كان حصله قبل الفسخ ، دفعه إلى السيد ، وحكم بعتقه ، وبعض التعجيز .

هكذا أطلقوه . وأحسن الإمام ، فقال : إن ظهر المال في يد السيد رد التعجيز ، وإلا فهو ماض ؛ لأنه فسخ حين تعذر الوصول إلى حقه ، فأشبه ما لو كان ماله غائبا فحضر بعد الفسخ .

وإذا حكمنا ببطلان التعجيز ، وكان السيد جاهلا بحال المال ، فعلى المكاتب رد ما أنفق السيد عليه .

وإن وجد السيد للمكاتب في جنونه [ ص: 258 ] مالا ، فقد سبق أن الاستقلال بأخذه ، وحكينا عن الإمام فيه تفصيلا .

الخامس : إذا مات المكاتب قبل تمام الأداء ، انفسخت الكتابة ، ومات رقيقا فلا يورث ، وتكون أكسابه لسيده ، وتجهيزه عليه سواء خلف وفاء بالنجوم أم لا ، وسواء كان الباقي قليلا أم كثيرا ، وسواء كان حط عنه شيئا ، أم لا ؛ لأن الإيتاء غير معلوم فلا يسقط به معلوما .

نص في " الأم " على أنه لو أحضر المكاتب المال ليدفعه إلى السيد ، أو دفع المال إلى رسوله ليوصله إليه ، فمات قبل قبضه مات رقيقا أيضا ، وأنه لو وكل المكاتب رجلا في دفع النجم الأخير إلى السيد ، ومات المكاتب ، فقال أولاده الأحرار : دفع الوكيل قبل موته ، فمات حرا ، وكذبه السيد ، فهو المصدق .

فإن أقاموا بينة على الدفع يوم الخميس ، وكان قد مات يوم الخميس لم ينفعهم إلا أن يقول الشهود : دفع قبل موته ، أو يقولوا : دفع قبل طلوع الشمس ، ويكون السيد معترفا بأن مات بعد الطلوع .

وأنه لو شهد وكيل المكاتب بقبض السيد قبل موت المكاتب لم تقبل شهادته ، ولو شهد به وكيل السيد قبلت ؛ لعدم التهمة .

فروع

تتعلق بالفسخ والانفساخ ، فيحصل الفسخ بقول السيد : فسخت الكتابة ، ونقضتها ، ورفعتها ، وأبطلتها ، وعجزت المكاتب .

ولو لم يطالبه السيد بعد حلول النجم مدة ، ثم أحضر المكاتب المال ، لم يكن للسيد الامتناع من قبضه ، ونص في " الأم " أنه لو قال بعد التعجيز : قررتك على الكتابة لم يصر مكاتبا حتى يجدد كتابة ، وقد سبق في القراض ما يقتضي خلافا فيه .

[ ص: 259 ] قلت : ليس هذا كالقراض فإن معظم الاعتماد هنا في العتق على التعليق ، وهذا اللفظ لا يصلح له . والله أعلم .

ولو تطوع رجل بأداء مال الكتابة ، فهل يجبر السيد على القبول ، أم له الفسخ ؟ وجهان أصحهما : له الفسخ ، وبه قطع الإمام . وإذا قبل ، ففي وقوعه عن المكاتب إذا كان بإذنه وجهان ، القياس : الوقوع .

وإذا مات المكاتب رقيقا ، أو فسخ السيد الكتابة لعجزه رق كل من يكاتب عليه والد وولد ، وصاروا جميعا للسيد ، وجميع ما في يده من المال للسيد إن لم يكن عليه دين ، فإن كان فسنذكره إن شاء الله تعالى .

فرع

إذا قهر السيد المكاتب ، واستعمله مدة لزمه أجرة مثله . ثم إذا جاء المحل ، هل يلزم إمهاله مثل تلك المدة ، أم له تعجيزه والفسخ ؟ قولان .

أظهرهما : الثاني ؛ لأنه أخذ بدل منافعه . ولو حبسه عن السيد ، فالمذهب أنه لا إمهال ، وأجراه العراقيون على القولين . وقد ذكرنا المسألة فيما لو أسر الكفار مكاتبا مدة [ ثم ] استنقذناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية