صفحة جزء
فصل

الدين هل يمنع وجوب الزكاة ؟ فيه ثلاثة أقوال . أظهرها - وهو المذهب والمنصوص في أكثر الكتب الجديدة - : لا يمنع ، والثاني : يمنع ، قاله في القديم واختلاف العراقيين ، والثالث : يمنع في الأموال الباطنة ، وهي الذهب والفضة ، وعروض التجارة ، ولا يمنع في الظاهرة وهي الماشية ، والزرع ، والثمر ، والمعدن ؛ لأن هذه نامية بنفسها ، وهذا الخلاف جار ، سواء كان الدين حالا أو مؤجلا ، وسواء كان من جنس المال أم لا ، هذا هو المذهب . وقيل : إن قلنا : يمنع عند اتحاد الجنس ، فعند اختلافه وجهان . فإذا قلنا : الدين يمنع فأحاطت بالرجل ديون وحجر عليه القاضي ، فله ثلاثة أحوال .

أحدها : أن يحجر عليه ويفرق ماله بين الغرماء ، فيزول ملكه ولا زكاة ، والثاني : أن يعين لكل غريم شيئا من ملكه ، ويمكنهم من أخذه ، فحال الحول قبل أخذهم - فالمذهب الذي قطع به الجمهور : لا زكاة عليه أيضا ؛ لضعف ملكه ، وقيل : فيه خلاف المغصوب ، وقيل : خلاف اللقطة في السنة الثانية ، قاله القفال .

الثالث : أن لا يفرق ماله ، ولا يعين لكل واحد شيئا ، ويحول الحول في دوام الحجر ، ففي وجوب الزكاة ثلاثة طرق ، أصحها أنه على الخلاف في المغصوب ، والثاني : القطع بالوجوب ، والثالث : القطع بالوجوب في المواشي ؛ لأن الحجر لا يؤثر في نمائها . وأما الذهب والفضة فعلى الخلاف ؛ لأن نماءهما بالتصرف ، وهو ممنوع منه .

فرع

إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة ، ففي علته وجهان . أصحهما : ضعف ملك المديون ، [ ص: 198 ] والثاني أن مستحق الدين تلزمه الزكاة . فلو أوجبناها على المديون أيضا أدى ذلك إلى تثنية الزكاة في المال الواحد . ويتفرع على الوجهين مسائل .

أحدها : لو كان مستحق الدين ممن لا زكاة عليه كالذمي ، فعلى الوجه الأول : لا تجب . وعلى الثاني : تجب .

الثانية : لو كان الدين حيوانا بأن ملك أربعين شاة سائمة ، وعليه أربعون شاة سلما ، فعلى الأول لا تجب ، وعلى الثاني : تجب . ومثله : لو أنبتت أرضه نصابا من الحنطة وعليه مثله سلما .

الثالثة : لو ملك نصابا والدين الذي عليه دون نصاب ، فعلى الأول : لا زكاة ، وعلى الثاني : تجب ، كذا أطلقوه . ومرادهم : إذا لم يملك صاحب الدين غيره من دين أو عين ، فلو ملك ما يتم النصاب ، فعليه الزكاة باعتبار هذا المال . وقطع الأكثرون في هذه الصورة بما يقتضيه الأول . ولو ملك بقدر الدين مما لا زكاة فيه كالعقار وغيره وجبت الزكاة في النصاب الزكوي على هذا القول أيضا على المذهب ، وقيل : لا تجب بناء على علة التثنية . ولو زاد المال الزكوي على الدين ، فإن كان الفاضل نصابا ، وجبت الزكاة فيه . وفي الباقي القولان ، وإلا لم تجب على هذا القول ، لا في قدر الدين ولا في الفاضل .

فرع

ملك أربعين شاة ، فاحتاج من يرعاها ، فحال الحول ، فإن استأجره بشاة معينة من الأربعين مختلطة بباقيها ، وجب شاة على الراعي ، منها جزء من أربعين جزءا ، والباقي على المستأجر . وإن كانت منفردة ، فلا زكاة على واحد منهما . وإن استأجره بشاة في الذمة ، فإن كان للمستأجر مال آخر يفي بها ، وجبت الزكاة في الأربعين ، وإلا فعلى القولين في أن الدين هل يمنع وجوبها ؟

[ ص: 199 ] فرع

إذا ملك مالين زكويين ، كنصاب من الغنم ونصاب من البقر ، وعليه دين ، نظر ، إن لم يكن الدين من جنس ما يملكه ، قال في التهذيب : يوزع عليهما . فإن خص كل واحد ما ينقص به عن النصاب فلا زكاة على القول الذي تفرع عليه . وذكر أبو القاسم الكرخي وصاحب " الشامل " أنه يراعى الأغبط للمساكين ، كما لو ملك مالا آخر غير زكوي ، صرفنا الدين إليه رعاية لحقهم .

وحكي عن ابن سريج ما يوافق هذا . وإن كان الدين من جنس أحد المالين ، فإن قلنا : الدين يمنع الزكاة فيما هو من غير جنسه ، فالحكم كما لو لم يكن من جنس أحدهما ، وإلا اختص بالجنس .

فرع

إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة ، فسواء دين الله عز وجل ، ودين الآدمي ، فلو ملك نصاب ماشية أو غيرها ، فنذر التصدق بهذا المال ، أو بكذا من هذا المال ، فمضى الحول قبل التصدق - فطريقان . أصحهما : القطع بمنع الزكاة ؛ لتعلق النذر بعين المال . والثاني أنه على الخلاف في الدين . ولو قال : جعلت هذا المال صدقة ، أو هذه الأغنام ضحايا ، أو لله علي أن أضحي بهذه الشاة ، وقلنا : تتعين للتضحية بهذه الصيغة - فالمذهب : لا زكاة ، وقيل : على الخلاف . ولو نذر التصدق بأربعين من الغنم ، أو بمائة درهم ولم يضف إلى ماشيته ودراهمه ، فإن قلنا : دين الآدمي لا يمنع ، فهذا أولى ، وإلا فوجهان أصحهما عند الإمام لا يمنع ؛ لأن هذا الدين لا مطالبة به في الحال ، فهو أضعف ؛ ولأن النذر يشبه [ ص: 200 ] التبرعات ، فإن الناذر مخير في ابتداء نذره ، فالوجوب به أضعف . ولو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه ، هل يكون وجوب الحج دينا مانعا من الزكاة ؟ حكمه حكم دين النذر الذي تقدم .

فرع

إذا قلنا : الدين لا يمنع الزكاة ، فمات قبل الأداء ، واجتمع الدين والزكاة في تركته - ففيه ثلاثة أقوال أظهرها أن الزكاة تقدم كما تقدم في حال الحياة ، ثم يصرف الباقي إلى الغرماء . والثاني : يقدم دين الآدمي كما يقدم القصاص على حد السرقة . والثالث : يستويان فيوزع عليهما . وقيل : تقدم الزكاة المتعلقة بالعين قطعا ، والأقوال في اجتماع الكفارات وغيرها فيما يسترسل في الذمة مع حقوق الآدميين . وقد تكون الزكاة من هذا القبيل بأن يتلف ماله بعد الوجوب والإمكان ، ثم يموت وله مال ، فإن الزكاة هنا متعلقة بالذمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية