صفحة جزء
[ ص: 250 ] فصل

خرص الرطب والعنب اللذين تجب فيهما الزكاة مستحب . ولنا وجه شاذ حكاه صاحب البيان عن حكاية الصيمري أنه واجب ، ولا يدخل الخرص في الزرع . ووقت خرص الثمرة بدو الصلاح ، وصفته أن يطوف بالنخلة ويرى جميع عناقيدها ويقول : خرصها كذا رطبا ، ويجيء منه من التمر كذا ، ثم يفعل بالنخلة الأخرى كذلك ، وكذا باقي الحديقة . ولا يقتصر على رؤية البعض وقياس الباقي ؛ لأنها تتفاوت ، وإنما تخرص رطبا ثم تمرا ؛ لأن الأرطاب تتفاوت ، فإن اتحد النوع جاز أن يخرص الجميع رطبا ثم تمرا ، ثم المذهب الصحيح المشهور أنه يخرص جميع النخل ، وحكي قول قديم أنه يترك للمالك نخلة أو نخلات يأكلها أهله ، ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل في كثرة عياله وقلتهم .

قلت : هذا القديم نص عليه أيضا في البويطي ونقله البيهقي عن نصه في البويطي والبيوع والقديم ، والله أعلم .

فرع

هل يكفي خارص ، أم لا بد من خارصين ؟ فيه طريقان . أحدهما : القطع بخارص ، وبه قال ابن سريج والإصطخري . وأصحهما على ثلاثة أقوال ، أظهرها : واحد ، والثاني : لا بد من اثنتين ، والثالث : إن خرص على صبي أو مجنون أو غائب ، فلا بد من اثنين ، وإلا كفى واحد ، وسواء اكتفينا بواحد ، أم اشترطنا اثنين ، فشرط الخارص كونه مسلما عدلا ، عالما بالخرص . وأما اعتبار الذكورة والحرية ، فقال صاحب " العدة " : إن اكتفينا بواحد ، اعتبرا ، وإلا جاز [ ص: 251 ] عبد وامرأة ، وذكر الشاشي في اعتبار الذكورة وجهين مطلقا . ولك أن تقول : إن اكتفينا بواحد ، فسبيله سبيل الحكم ، فتشترط الحرية والذكورة ، وإن اعتبرنا اثنين ، فسبيله سبيل الشهادات ، فينبغي أن تشترط الحرية ، وأن تشترط الذكورة في أحدهما ، وتقام امرأتان مقام الآخر .

قلت : الأصح : اشتراط الحرية والذكورة ، وصححه في المحرر ولو اختلف الخارصان ، توقفنا حتى يتبين المقدار منهما ، أو من غيرهما . قاله الدارمي ، وهو ظاهر ، والله أعلم .

فرع

هل الخرص عبرة أو تضمين ؟ قولان أظهرهما : تضمين ، ومعناه : ينقطع حق المساكين من عين الثمرة ، وينتقل إلى ذمة المالك .

والثاني : عبرة ، ومعناه أنه مجرد اعتبار للقدر ، ولا يضر حق المساكين في ذمة المالك . وفائدته على هذا جواز التصرف كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . ومن فوائده أيضا : لو أتلف المالك الثمار ، أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص ، ولولا الخرص لكان القول قوله في ذلك . فإذا قلنا : عبرة ، فضمن الخارص للمالك حق المساكين تضمينا صريحا وقبله المالك ، كان لغوا ، ويبقى حقهم على ما كان . وإذا قلنا : تضمين ، فهل نفس الخرص تضمين أم لا بد من تصريح الخارص بذلك ؟ فيه طريقان . أحدهما : على وجهين أحدهما : نفسه تضمين ، والثاني : لا بد من التصريح . قال إمام الحرمين : وعلى هذا فالذي أراه أنه يكفي تضمين الخارص ، ولا يحتاج إلى قبول المالك . والطريق الثاني وهو المذهب الذي عليه الاعتماد وقطع به الجمهور أنه لا بد من التصريح بالتضمين وقبول المالك ، فإن لم يضمنه أو ضمنه ، فلم يقبل المالك ، بقي حق المساكين على ما كان ، وهل يقوم وقت الخرص مقام الخرص ؟ إن قلنا : لا بد من التصريح بالتضمين ، لم يقم ، وإلا فوجهان .

[ ص: 252 ] قلت : الأصح : لا يقوم ، والله أعلم .

فرع

إذا أصابت الثمار آفة سماوية أو سرقت في الشجرة أو في الجرين قبل الجفاف ، فإن تلف الجميع ، فلا شيء على المالك باتفاق الأصحاب لفوات الإمكان ، والمراد إذا لم يقصر . فأما إذا أمكن الدفع فأخر ، أو وضعها في غير حرز ، فإنه يضمن . وإن تلف بعض الثمار ، فإن كان الباقي نصابا زكاه ، وإن كان قبل دونه ، بني على أن الإمكان شرط في الوجوب أو للضمان . فإن قلنا بالأول فلا شيء ، وإلا زكى الباقي بحصته . أما إذا أتلف المالك الثمرة أو أكلها ، فإن كان قبل بدو الصلاح فلا زكاة ، لكنه مكروه إن قصد الفرار منها ، وإن قصد الأكل أو التخفيف عن الشجرة أو غرضا آخر ، فلا كراهة ، وإن كان بعد الصلاح ، ضمن للمساكين . ثم له حالان :

أحدهما : أن يكون ذلك بعد الخرص . فإن قلنا : الخرص تضمين ضمن لهم عشر الثمن ؛ لأنه ثبت في ذمته بالخرص ، وإن قلنا : عبرة ، فهل يضمن عشر الرطب ، أو قيمة عشره ؟ فيه وجهان بناء على أنه مثلي أم لا ؟ والصحيح الذي قطع به الأكثرون : عشر القيمة .

الحال الثاني : أن يكون الإتلاف قبل الخرص ، فيعزر ، والواجب ضمان الرطب ، إن قلنا : لو جرى الخرص لكان عبرة . وإن قلنا : تضمين ، فوجهان . أصحهما : ضمان الرطب . والثاني : التمر . ولنا وجه أنه يضمن في هذه الحال أكثر الأمرين من عشر الثمن ، وقيمة عشر الرطب . والحالان مفروضان في رطب يجيء منه تمر وعنب يجيء منه زبيب . فإن لم يكن كذلك فالواجب في الحالين ضمان الرطب بلا خلاف .

[ ص: 253 ] فرع

تصرف المالك فيما خرص عليه بالبيع والأكل وغيرهما ، مبني على قولي التضمين والعبرة . فإن قلنا بالتضمين تصرف في الجميع ، وإن قلنا بالعبرة فنفوذ تصرفه في قدر الزكاة يبنى على أن الخلاف في أن الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة ، وقد سبق . وأما ما زاد على قدر الزكاة ، فنقل إمام الحرمين والغزالي ( أن ) الأصحاب قطعوا بنفوذه . ولكن الموجود في كتب العراقيين أنه لا يجوز البيع ولا سائر التصرفات في شيء من الثمار إذا لم يصر الثمن في ذمته بالخرص . فإن أرادوا نفي الإباحة دون الفساد فذاك ، وإلا فدعوى القطع غير مسلمة . وكيف كان فالمذهب جواز التصرف في الأعشار التسعة ، سواء أفردت بالتصرف أو تصرف في الجميع ؛ لأنا وإن قلنا بالفساد في قدر الزكاة فلا يعديه إلى الباقي على المذهب . أما إذا تصرف المالك قبل الخرص ، فقال في التهذيب : لا يجوز أن يأكل ولا يتصرف في شيء ، فإن لم يبعث الحاكم خارصا أو لم يكن حاكم - يحاكم إلى عدلين يخرصان عليه .

فرع

إذا ادعى المالك هلاك الثمار المخروصة عليه أو بعضها ، نظر ، إن أسنده إلى سبب يكذبه الحس كقوله : هلك بحريق وقع في الجرين ، وعلمنا أنه لم يقع في الجرين حريق - لم نبال بكلامه ، وإن أسنده إلى سبب خفي كالسرقة ، لم يكلف بينة ، ويقبل قوله بيمينه . وهل يمينه واجبة أم مستحبة ؟ وجهان . أصحهما : مستحبة ، وإن أسنده إلى سبب ظاهر ، كالبرد ، والنهب والجراد ، ونزول العسكر ، فإن عرف [ ص: 254 ] وقوع ذلك السبب وعموم أثره ، صدق بلا يمين . فإن اتهم في هلاك ثماره به ، حلف ، وإن لم يعرف وقوعه ، فالصحيح وبه قال الجمهور : يطالب بالبينة ؛ لإمكانها . ثم القول قوله في الهلاك به ، والثاني : القول قوله بيمينه ، والثالث : يقبل بلا يمين إذا كان ثقة . وحيث حلفناه ، فاليمين مستحبة لا واجبة على الأصح كما سبق . أما إذا اقتصر على دعوى الهلاك من غير تعرض لسبب ، فالمفهوم من كلام الأصحاب قبوله مع اليمين .

فرع

إذا ادعى المالك إجحافا في الخرص ، فإن زعم أن الخارص تعمد ذلك ، لم يلتفت إليه ، كما لو ادعى ميل الحاكم أو كذب الشاهد ، لا يقبل إلا ببينة . وإن ادعى أنه غلط ، فإن لم يبين القدر ، لم تسمع ، وإن بينه وكان يحتمل الغلط في مثله ، كخمسة أوسق في مائة ، قبل . فإن اتهم ، حلف وحط عنه . هذا إذا كان المدعى فوق ما يقع بين الكيلين . وأما إذا بعد الكيل غلطا يسيرا في الخرص بقدر ما يقع في الكيلين ، فهل يحط ؟ وجهان . أحدهما : لا ؛ لاحتمال أن النقص وقع في الكيل ، ولو كيل ثانيا وفى ، والثاني : يحط ؛ لأن الكيل يقين والخرص تخمين ، فالإحالة عليه أولى .

قلت : هذا أقوى ، وصحح إمام الحرمين الأول ، والله أعلم .

وإن ادعى نقصا فاحشا لا يجوز أهل الخبرة الغلط بمثله ، لم يقبل في حط جميعه ، وهل يقبل في حط الممكن ؟ وجهان . أصحهما : يقبل ، كما لو ادعت معتدة بالأقراء انقضاءها قبل زمن الإمكان ، وكذبناها ، وأصرت على الدعوى حتى جاء زمن الإمكان ، فإنا نحكم بانقضائها لأول زمن الإمكان .

التالي السابق


الخدمات العلمية