صفحة جزء
فصل

أركان الاعتكاف ، أربعة ; اللبث في المسجد ، والنية ، والمعتكف ، والمعتكف فيه .

الأول : اللبث ، وفي اعتباره وجهان حكاهما في " النهاية " . أصحهما : لا بد منه ، والثاني : يكفي مجرد الحضور ، كما يكفي مجرد الحضور بعرفة . ثم فرع على الوجهين فقال : إن اكتفينا بالحضور ، حصل الاعتكاف بالعبور . حتى لو دخل من باب ، وخرج من باب ، ونوى ، فقد اعتكف .

وإن اعتبرنا اللبث ، لم يكف ما يكفي في الطمأنينة في الصلاة ، بل لا بد من زيادة عليه بما يسمى عكوفا وإقامة .

ولا يعتبر السكون ، بل يصح اعتكافه قائما ، أو قاعدا ، أو مترددا في أطراف المسجد . ولا يقدر اللبث بزمان ، حتى لو نذر اعتكاف ساعة ، انعقد نذره . ولو نذر اعتكافا مطلقا ، خرج من عهدة النذر ، بأن يعتكف لحظة .

واستحب الشافعي - رحمه الله - ، أن يعتكف يوما للخروج من الخلاف ، فإن مالكا وأبا حنيفة رحمهما الله ، لا يجوزان اعتكاف أقل من يوم .

ونقل الصيدلاني وجها : أنه لا يصح الاعتكاف إلا يوما ، أو ما يدنو من يوم .

قلت : ولو كان يدخل ساعة ويخرج ساعة ، وكلما دخل نوى الاعتكاف ، صح على المذهب . وحكى الروياني فيه خلافا ضعيفا . والله أعلم .

[ ص: 392 ] فصل

يحرم على المعتكف الجماع ، وجميع المباشرات بالشهوة ، فإن جامع ذاكرا للاعتكاف ، عالما بتحريمه ، بطل اعتكافه ، سواء جامع في المسجد ، أو جامع عند خروجه لقضاء الحاجة .

فأما إذا جامع ناسيا للاعتكاف ، أو جاهلا بتحريمه ، فهو كنظيره في الصوم .

وروى المزني عن نصه في بعض المواضع : أنه لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد . قال الإمام : مقتضى هذا ، أن لا يفسد بإتيان البهيمة ، والإتيان في غير المأتي إذا لم نوجب فيهما الحد . والمذهب الأول .

قلت : نصه محمول على أنه لا يفسد بالوطء فيما دون الفرج . والله أعلم .

أما إذا لمس ، أو قبل بشهوة ، أو باشر فيما دون الفرج متعمدا ، ففيه نصوص وطرق مختلفة ، مختصرها ثلاثة أقوال ، أو أوجه .

أصحها عند الجمهور : إن أنزل ، بطل اعتكافه ، وإلا ، فلا . والثاني : يبطل مطلقا . والثالث : لا يبطل مطلقا .

وإن استمنى بيده ، فإن قلنا : إذا لمس فأنزل ، لا يبطل ، فهنا أولى ، وإلا فوجهان ، لأن كمال اللذة باصطكاك البشرتين . ولا بأس على المعتكف بأن يقبل على سبيل الشفقة والإكرام . ولا بأن يلمس بغير شهوة .

فرع .

للمعتكف أن يرجل رأسه ويتطيب ، ويتزوج ويزوج ، ويتزين بلبس الثياب ، ويأمر بإصلاح معاشه ، وتعهد ضياعه ، وأن يبيع ويشتري ، ويخيط ويكتب ، وما أشبه ذلك ، ولا يكره شيء من هذه الأعمال إذا لم تكثر .

فإن أكثر ، أو قعد يحترف بالخياطة ونحوها ، كره ولم يبطل اعتكافه . ونقل عن القديم : أنه إذا [ ص: 393 ] اشتغل بحرفة ، بطل اعتكافه ، وقيل : بطل اعتكافه المنذور . والمذهب ما قدمناه .

قلت : الأظهر ، كراهة البيع والشراء في المسجد وإن قل للمعتكف وغيره ، إلا بحاجة . وهو نصه في " البويطي " وفيه حديث صحيح في النهي . والله أعلم .

وإن اشتغل بقراءة القرآن ودراسة العلم ، فزيادة خير .

فرع

يجوز أن يأكل في المسجد ، والأولى أن يبسط سفرة أو نحوها . وله غسل يده فيه ، والأولى غسلها في طست ونحوها لئلا يبتل المسجد فيمتنع غيره من الصلاة والجلوس فيه ، ولأنه قد يتقذر .

ولهذا قال في " التهذيب " : يجوز نضح المسجد بالماء المطلق ، ولا يجوز بالمستعمل وإن كان طاهرا لأن النفس قد تعافه .

ويجوز الفصد والحجامة في المسجد في إناء ، بشرط أن يأمن التلويث ، والأولى تركه . وفي البول في الطست احتمالان لصاحب " الشامل " والأصح : المنع ، وبه قطع صاحب " التتمة " ، لأنه أقبح من الفصد . ولهذا لا يمنع من الفصد مستقبل القبلة ، بخلاف البول .

فصل

يصح الاعتكاف بغير صوم ، ويصح في الليل وحده ، وفي يوم العيد وأيام التشريق ، هذا هو المذهب والمشهور .

وحكى الشيخ أبو محمد وغيره قولا قديما : أن الصوم شرط ، فلا يصح الاعتكاف في العيد ، و [ أيام ] التشريق ، والليل المجرد .

[ ص: 394 ] فرع

إذا نذر أن يعتكف يوما هو فيه صائم ، أو أياما هو فيها صائم ، لزمه الاعتكاف في أيام الصوم ، وليس له إفراد أحدهما عن الآخر بلا خلاف .

ولو اعتكف في رمضان ، أجزأه ، لأنه لم يلتزم بهذا النذر صوما ، وإنما نذر الاعتكاف بصفة وقد وجدت . ولو نذر أن يعتكف صائما ، أو يعتكف بصوم ، لزمه الاعتكاف والصوم .

وهل يلزمه الجمع بينهما ؟ وجهان .

أحدهما : لا ، لأنهما عبادتان مختلفتان ، فأشبه إذا نذر أن يصلي صائما . وأصحهما : يلزمه ، وهو نصه في " الأم " كالمسألة السابقة .

فعلى هذا ، لو شرع في الاعتكاف صائما ، ثم أفطر ، لزمه استئناف الصوم والاعتكاف .

وعلى الأول : يكفيه استئناف الصوم . ولو نذر اعتكاف أيام وليال متتابعة صائما ، فجامع ليلا ، ففيه هذان الوجهان . ولو اعتكف في رمضان ، أجزأه عن الاعتكاف في الوجه الأول ، وعليه الصوم ، وعلى الثاني : لا يجزئه الاعتكاف أيضا .

ولو نذر أن يصوم معتكفا ، فطريقان . أصحهما : طرد الوجهين ، أصحهما عند الأكثرين : لزوم الجمع .

والثاني : القطع بأنه لا يجب الجمع . والفرق ، أن الاعتكاف لا يصلح وصفا للصوم ، بخلاف عكسه ، فإن الصوم من مندوبات الاعتكاف .

ولو نذر أن يعتكف مصليا ، أو يصلي معتكفا ، لزمه الاعتكاف والصلاة . وفي لزوم الجمع ، طريقان .

المذهب : لا يجب . وقيل : بطرد الوجهين . والفرق ، أن الصوم والاعتكاف متقاربان ، لاشتراكهما في الكف ، والصلاة أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف .

فلو نذر أن يعتكف محرما بالصلاة ، فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة ، فالذي يلزمه من الصلاة ، هو الذي يلزمه لو أفرد الصلاة بالنذر ، وإلا لزمه ذلك القدر في يوم اعتكافه ، ولا يلزمه استيعاب اليوم بالصلاة .

وإن نذر اعتكاف أيام مصليا ، لزمه ذلك القدر في كل يوم ، هكذا ذكره صاحب " التهذيب " [ ص: 395 ] وغيره . ولك أن تقول : ظاهر اللفظ يقتضي الاستيعاب ، فإن تركنا الظاهر ، فلم يعتبر تكرير القدر الواجب من الصلاة كل يوم ؟ وهلا اكتفي به مرة في جميع المدة ؟ ولو نذر أن يصلي صلاة يقرأ فيها سورة كذا ، ففي وجوب الجمع الخلاف الذي في الجمع بين الصوم والاعتكاف ، قاله القفال ، وهو ظاهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية