صفحة جزء
[ ص: 18 ] فصل

في الاستئجار للحج

يجوز الاستئجار عليه ، لدخول النيابة فيه كالزكاة . ويجوز بالرزق ، كما يجوز بالإجارة . وذلك بأن يقول : حج عني وأعطيك نفقتك . ولو استأجر بالنفقة ، لم تصح ، لجهالتها .

فرع

الاستئجار في جميع الأعمال ضربان . استئجار عين الشخص ، وإلزام ذمته العمل . مثال الأول من الحج ، أن يقول المعضوب : استأجرتك لتحج عني ، أو يقول الوارث : لتحج عن ميتي . ولو قال : لتحج بنفسك ، كان تأكيدا . ومثال الثاني : ألزمت ذمتك تحصيل الحج . ويفترق الضربان ، في أمور ستراها إن شاء تعالى .

ثم لصحة الاستئجار شروط . وله آثار وأحكام ، موضعها كتاب الإجارة والذي نذكر هنا ما يتعلق بخصوص الحج . فكل واحد من ضربي الإجارة ، قد يعين فيه زمن العمل ، وقد لا يعين . وإذا عين ، فقد يعين السنة الأولى ، وقد يعين غيرها ، فأما في إجارة العين ، فإن عينا السنة الأولى ، جاز بشرط أن يكون الخروج والحج فيما بقي منها مقدورا للأجير . فلو كان مريضا لا يمكنه الخروج ، أو كان الطريق مخوفا ، أو كانت المسافة بحيث لا تنقطع في بقية السنة ، لم يصح العقد ، للعجز عن المنفعة . وإن عينا غير السنة الأولى [ ص: 19 ] لم يصح العقد - كاستئجار الدار للشهر المسقبل - لكن لو كانت المسافة بعيدة لا يمكن قطعها في سنة ، لم يضر التأخير . والمعتبر السنة الأولى من سني الإمكان من ذلك البلد . وإن أطلقا ولم يعينا زمنا حمل على السنة الأولى . فيعتبر فيها ما سبق . وأما الإجارة الواردة على الذمة ، فيجوز فيها تعيين السنة الأولى وغيرها . فإن أطلق حمل على الأولى ، ولا يقدح فيها مرض الأجير لإمكان الاستنابة ، ولا خوف الطريق ، ولا ضيق الوقت ، إن عين غير السنة الأولى . وليس للأجير أن يستنيب في إجارة العين بحال . وأما إجارة الذمة ففي " التهذيب " وغيره : أنه إن قال : ألزمت ذمتك تحصيل حجة لي ، جاز أن يستنيب ، وإن قال : لتحج بنفسك ، لم يجز ؛ لأن الغرض يختلف باختلاف أعيان الأجراء . وهذا قد حكاه الإمام عن الصيدلاني وخطأه فيه ، وقال ببطلان الإجارة في الصورة الثانية ؛ لأن الدينية مع الربط بمعين تتناقضان . كمن أسلم في ثمرة بستان معين [ بعينه ] . وهذا إشكال قوي .

فرع

أعمال الحج معروفة ، فإن علمها المتعاقدان عند العقد ، فذاك . وإن جهلها أحدهما ، لم يصح العقد . وهل يشترط تعيين الميقات الذي يحرم منه الأجير ؟ فيه طرق . أصحها على قولين ، أظهرهما : لا يشترط ، ويحمل على ميقات تلك البلدة في العادة الغالبة . والثاني : يشترط . الطريق الثاني : إن كان للبلد طريقان مختلفا الميقات ، أو طريق يفضي إلى ميقاتين كالعقيق ، وذات عرق ، اشترط . وإن لم يكن [ له ] إلا ميقات واحد ، لم يشترط . والطريق الثالث : إن كان الاستئجار [ ص: 20 ] عن حي اشترط وإلا فلا . فإن شرطنا التعيين فسدت الإجارة بإهماله . لكن يقع الحج عن المستأجر لوجود الإذن ، ويلزمه أجرة المثل . وإن كانت الإجارة للحج والعمرة ، فلا بد من بيان أنه يفرد ، أو يقرن ، أو يتمتع ، لاختلاف الغرض بها .

فرع

نقل المزني [ عن ] نصه في " المنثور " : أنه لو قال المعضوب : من حج عني ، فله مائة درهم ، فحج عنه إنسان ، استحق المائة . وللأصحاب فيه وجهان . أصحهما وإليه ميل الأكثرين : أن هذا النص على ظاهره .

وتصح الجعالة على كل عمل يصح الاستئجار عليه ؛ لأن الجعالة تجوز على العمل المجهول ، فعلى المعلوم أولى .

والثاني : أن النص مخالف أو مؤول ، ولا تجوز الجعالة على ما تجوز الإجارة عليه ، إذ لا ضرورة إليها لإمكان الإجارة . فعلى هذا لو حج عنه إنسان ، وقع الحج عن المعضوب للإذن ، وللعامل أجرة المثل لفساد العقد .

وفيه وجه : أنه يفسد الإذن ؛ لأنه غير متوجه إلى إنسان بعينه . فهو كما لو قال : وكلت من أراد بيع داري ، فلا يصح التوكيل ، وهذا شاذ ضعيف .

قلت : لو قال : من حج عني ، أو أول من يحج عني ، فله ألف درهم ، فسمعه رجلان فأحرما عنه أحدهما بعد الآخر ، وقع الأول عن القائل ، وله الألف ، ووقع حج الثاني عن نفسه ، ولا شيء له . وإن وقعا معا وشك في وقوعهما معا ، وقع حجهما عنهما ولا شيء لهما على القائل ؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر ، صرح به القاضي حسين والأصحاب . - والله أعلم - .

[ ص: 21 ] فرع

مقتضى كلام إمام الحرمين والغزالي تجويز تقديم الإجارة على خروج الناس للحج ، وأن للأجير انتظار خروجهم ، ويخرج مع أول رفقة . والذي ذكره جمهور الأصحاب على اختلاف طبقاتهم ينازع فيه . ويقتضي اشتراط وقوع العقد في زمن خروج الناس من ذلك البلد . حتى قال صاحب " التهذيب " : لا تصح إجارة العين ، إلا في وقت خروج القافلة من ذلك البلد ، بحيث يشتغل عقيب العقد بالخروج أو بأسبابه من شراء الزاد ونحوه . فإن كان قبله ، لم يصح . وبنوا على ذلك ، أنه لو كان الاستئجار بمكة ، لم يجز إلا في أشهر الحج ؛ ليمكنه الاشتغال بالعمل عقيب العقد . وعلى ما قاله الإمام والغزالي : لو جرى العقد في وقت تراكم الإنداء والثلوج ، فوجهان . أحدهما : يجوز ، وبه قطع الغزالي في " الوجيز " ، وصححه في " الوسيط " لأن توقع زوالها مضبوط .

والثاني : لا لتعذر الاشتغال بالعمل في الحال بخلاف انتظار خروج الرفقة فإن خروجها في الحال غير متعذر ، وهذا كله في إجارة العين .

أما إجارة الذمة ، فيجوز تقديمها على الخروج بلا شك .

قلت : أنكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح على الإمام الرافعي هذا النقل عن جمهور الأصحاب قال : وما ذكره عن صاحب " التهذيب " يمكن التوفيق بينه وبين كلام الإمام ، أو هو شذوذ من صاحب " التهذيب " لا ينبغي أن يضاف إلى جمهور الأصحاب ، فإن الذي رأيناه في " التتمة " و " الشامل " و " البحر " وغيرها ، مقتضاه : أنه يصح العقد في وقت يمكن فيه الخروج والسير على العادة ، أو الاشتغال بأسباب الخروج . قال صاحب " البحر " : أما عقدها في أشهر الحج ، فيجوز في كل موضع ، لإمكان الإحرام في الحال ، هذا كلام الشيخ أبي عمرو . - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية