صفحة جزء
فصل

أما المتمتع ، فهو الذي يحرم بالعمرة من ميقات بلده ، ويدخل مكة ويفرغ من أفعال العمرة ، ثم ينشئ الحج من مكة ، سمي متمتعا لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بينهما ، فإنه يحل له جميع المحظورات ، إذا تحلل من العمرة سواء ساق هديا ، أم لا ويجب عليه دم . ولوجوب الدم شروط .

أحدها : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ، وهم من مسكنه دون مسافة القصر من الحرم . وقيل : من نفس مكة . فإن كان مسافة القصر ، فليس بحاضره . فإن كان له مسكنان ، أحدهما في حد القرب ، والآخر بعيد ، فإن كان مقامه بأحدهما أكثر ، فالحكم له . فإن استوى مقامه بهما وكان أهله وماله في أحدهما دائما أو أكثر ، فالحكم له . فإن استويا في ذلك ، وكان عزمه الرجوع إلى أحدهما ، فالحكم له . فإن لم يكن له عزم ، فالحكم للذي خرج منه . ولو استوطن غريب مكة ، فهو حاضر . وإن استوطن مكي العراق ، فغير حاضر . ولو قصد الغريب مكة فدخلها متمتعا ناويا الإقامة بها بعد الفراغ من النسكين ، أو من العمرة ، أو نوى الإقامة بها بعد ما اعتمر ، فليس بحاضر ، فلا يسقط عنه الدم .

[ ص: 47 ] فرع

ذكر الغزالي - رحمه الله - مسألة ، وهي من مواضع التوقف ، ولم أجدها لغيره بعد البحث . قال : والأفقي إذا جاوز الميقات غير مريد النسك ، فاعتمر عقب دخوله مكة ، ثم حج لم يكن متمتعا ، إذ صار من الحاضرين ، إذ ليس يشترط فيه قصد الإقامة ، وهذه المسألة تتعلق بالخلاف في أن من قصد مكة هل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة أم لا ؟ ثم ما ذكره من اعتبار اشتراط الإقامة ، ينازعه فيه كلام الأصحاب ونقلهم عن نصه في " الإملاء " والقديم ، فإنه ظاهر في اعتبار الإقامة ، بل في اعتبار الاستيطان . وفي النهاية والوسيط حكاية وجهين في صورة تداني هذه . وهي أنه لو جاوز الغريب الميقات ، وهو لا يريد نسكا ، ولا دخول الحرم ، ثم بدا له بقرب مكة أن يعتمر ، فاعتمر منه وحج بعدها على صورة التمتع ، هل يلزمه الدم ؟ أحد الوجهين : لا يلزمه ؛ لأنه حين بدا له كان على مسافة الحاضر . وأصحهما : يلزمه ؛ لأنه وجدت صورة التمتع ، وهو غير معدود من الحاضرين .

قلت : المختار في الصورة التي ذكرها الغزالي أولا : أنه متمتع ليس بحاضر ، بل يلزمه الدم . - والله أعلم - .

فرع

لا يجب على حاضر المسجد الحرام دم القران كما لا يجب عليه دم التمتع . هذا هو المذهب . وحكى الحناطي وجها : أنه يلزمه . ويشبه أن يكون هذا الخلاف مبنيا على وجهين نقلهما صاحب العدة في أن دم القران ، دم جبر ، أم دم نسك ؟ المذهب المعروف : أنه دم جبر .

[ ص: 48 ] فرع

هل يجب على المكي إذا قرن ، إنشاء الإحرام من أدنى الحل كما لو أفرد العمرة ، أم يجوز أن يحرم من جوف مكة ، إدراجا للعمرة تحت الحج ؟ وجهان . أصحهما : الثاني . ويجريان في الأفقي إذا كان بمكة وأراد القران .

الشرط الثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج . فلو أحرم وفرغ منها قبل أشهره ، ثم حج ، لم يلزمه الدم . فلو أحرم بها قبل أشهره ، وأتى بجميع أفعالها في أشهره ، ثم حج فقولان . أظهرهما : نصه في الأم : لا دم . والثاني : نصه في " القديم " و " الإملاء " : يجب الدم . وقال ابن سريج : ليست على قولين ، بل على حالين . إن أقام بالميقات محرما بالعمرة حتى دخلت أشهر الحج ، أو عاد إليه في الأشهر محرما بها وجب الدم . وإن جاوزه قبل الأشهر ولم يعد إليه ، فلا دم . ولو سبق الإحرام بها وبعض أعمالها في أشهره ، فالخلاف مرتب إن لم نوجب إذا لم يتقدم إلا الإحرام ، فهنا أولى ، وإلا فوجهان . الأصح : لا يجب . وإذا لم نوجب دم المتمتع في هذه الصورة ، ففي وجوب دم الإساءة وجهان . أحدهما : يجب ؛ لأنه أحرم بالحج من مكة . وأصحهما : لا ، لأن المسيء من ينتهي إلى الميقات على قصد النسك ويجاوزه غير محرم ، وهذا جاوز محرما .

الشرط الثالث : أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة . فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة ، فلا دم ، سواء أقام بمكة إلى أن حج ، أو رجع وعاد .

الشرط الرابع : أن لا يعود إلى الميقات ، بأن أحرم بالحج من نفس مكة واستمر . فلو عاد إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه ، أو إلى مسافة مثله [ ص: 49 ] وأحرم بالحج فلا دم . ولو أحرم به من مكة ، ثم ذهب إلى الميقات محرما ، ففي سقوطه الخلاف السابق فيمن جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه محرما . ولو عاد إلى ميقات أقرب منه إلى مكة من ميقات عمرته وأحرم منه ، بأن كان ميقات عمرته الجحفة فعاد إلى ذات عرق ، فهل هو كالعود إلى ميقات عمرته ؟ وجهان .

أحدهما : لا وعليه دم . وأصحهما : نعم ؛ لأنه أحرم من موضع ليس ساكنوه من حاضري المسجد الحرام ، وهذا اختيار القفال والمعتبرين .

فرع

لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة ، ثم عاد إلى الميقات ، فالمذهب أنه لا دم ، نص عليه في " الإملاء " وصححه الحناطي . وقال الإمام : إن قلنا : المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه ، لا يسقط عنه الدم ، فهنا أولى ، وإلا ، فوجهان والفرق أن اسم القران لا يزول بالعود ، بخلاف التمتع . الشرط الخامس : مختلف فيه ، وهو أنه ، هل يشترط وقوع النسكين عن شخص واحد ؟ وجهان . قال الخضري : يشترط . وقال الجمهور : لا يشترط .

ويتصور فوات هذا الشرط في صور . إحداها : أن يستأجره شخص لحج ، وآخر لعمرة . الثانية : أن يكون أجيرا لعمرة ، فيفرغ ثم يحج لنفسه . الثالثة : أن يكون أجيرا لحج فيعتمر عن نفسه ، ثم يحج للمستأجر . فإن قلنا بقول الجمهور ، فقد ذكروا أن نصف دم التمتع على من يقع له الحج ، ونصفه على من تقع له العمرة . وليس هذا الإطلاق على ظاهره ، بل هو محمول على تفصيل ذكره صاحب " التهذيب " .

[ ص: 50 ] أما في الصورة الأولى فقال : إن أذنا في التمتع ، فالدم عليهما نصفان ، وإلا فعلى الأجير . وعلى قياسه : إن أذن أحدهما فقط ، فالنصف على الآذن ، والنصف على الأجير . وأما في الصورتين الآخرتين ، فقال : إن أذن له المستأجر في التمتع ، فالدم عليهما نصفان ، وإلا ، فالجميع على الأجير .

واعلم بعد هذا أمورا .

أحدها : أن إيجاب الدم على المستأجرين ، أو أحدهما مفرع على الأصح ، وهو أن دم التمتع والقران على المستأجر ، وإلا فهو على الأجير بكل حال . الثاني : إذا لم يأذن المستأجران أو أحدهما في الصورة الأولى ، أو المستأجر في الثالثة ، وكان ميقات البلد معينا في الإجارة ، أو نزلنا المطلق عليه ، لزمه مع دم التمتع دم الإساءة لمجاوزة ميقات نسكه .

الثالث : إذا أوجبنا الدم على المستأجرين فكانا معسرين لزم كل واحد منهما خمسة أيام ، لكن صوم التمتع بعضه في الحج ، وبعضه في الرجوع ، وهما لم يباشرا حجا . وقد قدمنا - في فروع الإجارة فيمن استأجره ليقرن فقرن أو ليتمتع فتمتع ، وكان المستأجر معسرا ، وقلنا : الدم عليه - خلافا بين صاحبي " التهذيب " و " التتمة " . فعلى قياس قول صاحب " التهذيب " : الصوم على الأجير . وعلى قياس صاحب " التتمة " : هو كما لو عجز المتمتع عن الهدي والصوم جميعا . ويجوز أن يكون الحكم كما سيأتي في المتمتع إذا لم يصم في الحج ، كيف يقضي ؟ فإذا أوجبنا التفريق ، فتفريق الخمسة بنسبة الثلاثة والسبعة ، يبعض القسمين فيكملان ، ويصوم كل واحد منهما ستة أيام ، وقس على هذا . أما إذا أوجبنا الدم في الصورتين الآخرتين على الأجير والمستأجر ، وإذا فرعنا على قول [ ص: 51 ] الخضري ، فإذا اعتمر عن المستأجر ، ثم حج عن نفسه ، ففي كونه مسيئا ، الخلاف السابق فيمن اعتمر قبل أشهر الحج ثم حج من مكة ، لكن الأصح هنا : أنه مسيء ، لإمكان الإحرام بالحج حين حضر الميقات . قال الإمام : فإن لم يلزمه الدم ، ففوات هذا الشرط لا يؤثر إلا في فوات فضيلة التمتع على قولنا : إنه أفضل من الإفراد . وإن ألزمناه الدم ، فله أثران .

أحدهما : هذا . والثاني : أن المتمتع لا يلزمه العود إلى الميقات . وإن عاد وأحرم منه ، سقط عنه الدم بلا خلاف . والمسيء يلزمه العود . وإذا عاد ، ففي سقوط الدم عنه خلاف . وأيضا ، فالدمان يختلف بدلهما .

الشرط السادس : مختلف فيه ، وهو نية التمتع . والأصح : أنها لا تشترط ، كما لا تشترط نية القران . فإن شرطناها ففي وقتها أوجه .

أحدها : حالة الإحرام بالعمرة . والثاني : ما لم يفرغ من العمرة . والثالث : ما لم يشرع في الحج .

الشرط السابع : أن يحرم بالعمرة من الميقات . فلو جاوزه مريدا للنسك ، ثم أحرم بها ، فالمنصوص : أنه ليس عليه دم التمتع ، لكن يلزمه دم الإساءة ، فأخذ بإطلاق هذا النص آخرون . وقال الأكثرون : هذا إذا كان الباقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر . فإن بقيت مسافة القصر ، فعليه الدمان جميعا .

الشرط الثامن : مختلف فيه . حكي عن ابن خيران : اشتراط وقوع النسكين في شهر واحد ، وخالفه عامة الأصحاب .

[ ص: 52 ] فرع

الشروط المذكورة معتبرة لوجوب الدم وفاقا وخلافا . وهل يعتبر في نفس التمتع ؟ فيها وجهان . أحدهما : نعم . فلو فات شرط ، كان مفردا . وأشهرهما : لا تعتبر . ولهذا قال الأصحاب : يصح التمتع والقران من المكي ، خلافا لأبي حنيفة - رحمه الله - .

فرع

إذا اعتمر ولم يرد العود إلى الميقات لزمه أن يحرم بالحج من مكة ، وهي في حقه كهي في حق المكي . والكلام في الموضع الذي هو أفضل لإحرامه ، وفيما لو خالف فأحرم خارج مكة في الحرم أو خارجه ، ولم يعد إلى الميقات ، ولا إلى مسافته على ما ذكرنا في المكي . وإذا اقتضى الحال وجوب دم الإساءة ، وجب أيضا مع دم التمتع .

التالي السابق


الخدمات العلمية