صفحة جزء
الشرط الرابع : الذبح .

فالذبح الذي يباح به الحيوان المقدور عليه ، إنسيا كان أو وحشيا ، ضحية كان أو غيرها ، هو التذفيف بقطع جميع الحلقوم والمريء من حيوان فيه حياة مستقرة بآلة ليست عظما ولا ظفرا ، فهذه قيود . أما القطع ، فاحتراز مما لو اختطف رأس عصفور أو غيره ، بيده ، أو ببندقة ، فإنه ميتة . وأما الحلقوم ، [ ص: 202 ] فهو مجرى النفس خروجا ودخولا ، والمريء مجرى الطعام والشراب ، وهو تحت الحلقوم ، وراءهما عرقان في صفحتي العنق يحيطان بالحلقوم ، وقيل : بالمريء ، ويقال لهما : الودجان ، ويقال للحلقوم والمريء معهما : الأوداج . ولا بد من قطع الحلقوم والمريء ، على الصحيح المنصوص . وقال الاصطخري : يكفي أحدهما ؛ لأن الحياة لا تبقى بعده . قال الأصحاب : هذا خلاف نص الشافعي رحمه الله ، وخلاف مقصود الذكاة ، وهو الإزهاق بما يوحي ولا يعذب . ويستحب معهما قطع الودجين ؛ لأنه أوحى ، والغالب أنهما ينقطعان بقطع الحلقوم والمريء ، فإن تركهما ، جاز . ولو ترك من الحلقوم أو المريء شيئا يسيرا ، أو مات الحيوان ، فهو ميتة . وكذا لو انتهى إلى حركة المذبوح ، فقطع المتروك ، فميته . وفي " الحاوي " وجه : إن بقي اليسير ، فلا يضر ، واختاره الروياني في " الحلية " ، والصحيح : الأول .

ولو قطع من القفا حتى وصل الحلقوم والمريء ، عصى ، لزيادة الإيلام . ثم ينظر ، إن وصل إلى الحلقوم والمريء وقد انتهى إلى حركة المذبوح ، لم يحل بقطع الحلقوم والمريء بعد ذلك ، وإن وصلهما وفيه حياة مستقرة ، فقطعهما ، حل ، كما لو قطع يده ثم ذكاه . قال الإمام : ولو كان فيه حياة مستقرة عند ابتداء قطع المريء ، ولكن لما قطعه مع بعض الحلقوم انتهى إلى حركة المذبوح لما ناله بسبب قطع القفا ، فهو حلال ؛ لأن أقصى ما وقع التعبد به أن يكون فيه حياة مستقرة عند ابتداء قطع المذبح . والقطع من صفحة العنق ، كالقطع من القفا . ولو أدخل السكين في أذن الثعلب ليقطع المريء والحلقوم من داخل الجلد ، ففيه هذا التفصيل . ولو أمر السكين ملصقا باللحيين فوق الحلقوم والمريء ، وأبان الرأس ، فليس هو بذبح ؛ لأنه لم يقطع الحلقوم والمريء . وأما كون التذفيف حاصلا بقطع الحلقوم والمريء ، ففيه مسألتان :

إحداهما : لو أخذ الذابح في قطع الحلقوم

[ والمريء ] ، وأخذ آخر في نزع حشوته ، أو نخس خاصرته ، لم يحل ؛ لأن التذفيف لم يتمخض بالحلقوم والمريء . وسواء كان ما يجري به قطع الحلقوم مما يذفف لو انفرد ، أو كان يعين على [ ص: 203 ] التذفيف . ولو اقترن قطع الحلقوم بقطع رقبة الشاة من قفاها ، بأن كان يجري سكينا من القفا ، وسكينا من الحلقوم حتى التقتا ، فهي ميتة ، بخلاف ما إذا تقدم قطع القفا وبقيت الحياة مستقرة إلى وصول السكين المذبح .

المسألة الثانية : يجب أن يسرع الذابح في القطع ، ولا يتأنى بحيث يظهر انتهاء الشاة قبل استتمام قطع المذبح إلى حركة المذبوح ، وهذا قد يخالف ما سبق : أن المتعبد به ، كون الحياة مستقرة عند الابتداء ، فيشبه أن المقصود هنا ، إذا تبين مصيره إلى حركة المذبوح ، وهناك ، إذا لم يتحقق الحال .

قلت : هذا الذي قاله الإمام الرافعي ، خلاف ما سبق تصريح الإمام به ، بل الجواب : أن هذا مقصر في الثاني ، فلم تحل ذبيحته ، بخلاف الأول فإنه لا تقصير ، ولو لم يحلله ، أدى إلى حرج . والله أعلم .

وأما كون الحيوان عند القطع فيه حياة مستقرة ، ففيه مسائل :

إحداها : لو جرح السبع صيدا ، أو شاة ، أو انهدم سقف على بهيمة أو جرحت هرة حمامة ، ثم أدركت حية فذبحت ، فإن كان فيها حياة مستقرة ، حلت وإن تيقن هلاكها بعد يوم ويومين ، وإن لم يكن فيها حياة مستقرة ، لم تحل ، هذا هو المذهب والمنصوص ، وبه قطع الجمهور . وحكي قول : أنها تحل في الحالين ، وقول : أنها لا تحل فيهما ، وهذا بخلاف الشاة إذا مرضت ، فصارت إلى أدنى الرمق فذبحت ، فإنها تحل قطعا ؛ لأنه لم يوجد سبب يحال الهلاك عليه .

ولو أكلت الشاة نباتا مضرا ، فصارت إلى أدنى الرمق فذبحت ، قال القاضي حسين مرة : فيها وجهان ، وجزم مرة بالتحريم ؛ لأنه وجد سبب يحال الهلاك عليه ، فصار كجرح السبع . ثم كون الحيوان منتهيا إلى حركة المذبوح ، أو فيه حياة مستقرة ، تارة يستيقن ، وتارة يظن بعلامات وقرائن لا تضبطها العبارة ، وشبهوه بعلامات الخجل والغضب ونحوهما . ومن أمارات بقاء الحياة المستقرة : الحركة الشديدة بعد قطع الحلقوم والمريء ، وانفجار الدم [ ص: 204 ] وتدفقه . قال الإمام : ومنهم من قال : كل واحد منهما يكفي دليلا على بقاء الحياة المستقرة . قال : والأصح : أن كلا منهما لا يكفي ؛ لأنه ما قد يحصلان بعد الانتهاء إلى حركة المذبوح ، لكن قد ينضم إلى أحدهما أو كليهما قرائن أو أمارات أخر تفيد الظن أو اليقين ، فيجب النظر والاجتهاد .

قلت : اختار المزني وطوائف من الأصحاب : الاكتفاء بالحركة الشديدة ، وهو الأصح . والله أعلم .

وإذا شككنا في الحياة المستقرة ، ولم يترجح في ظننا شيء ، فوجهان . أصحهما : التحريم ، للشك في المبيح . وأما كون الآلة ليست عظما ، فمعناه : أنه يجوز بكل قاطع إلا الظفر والعظم ، سواء من الآدمي وغيره ، المتصل والمنفصل . وحكي وجه في عظم الحيوان المأكول ، وهو شاذ ، وستأتي هذه المسألة مستوفاة في الصيد والذبائح إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية