صفحة جزء
فصل

وأما أحكام الأضحية ، فثلاثة أنواع .

الأول : فيما يتعلق بتلفها وإتلافها ، وفيه مسائل :

إحداها : الأضحية المعينة ، والهدي المعين ، يزول ملك المتقرب عنهما بالنذر ، فلا ينفذ تصرفه فيهما ببيع ولا هبة ، ولا إبدال بمثلهما ، ولا بخير منهما . وحكي وجه : أنه لا يزول ملكه حتى يذبح ويتصدق باللحم ، كما

[ لو ] قال : لله علي أن أعتق هذا العبد ، لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاق . والصحيح : الأول . والفرق : ما سبق . ولو نذر إعتاق عبد بعينه ، لم يجز بيعه وإبداله وإن لم يزل الملك عنه . ولو خالف فباع الأضحية أو الهدي المعين ، استرد إن كانت العين باقية ، ويرد [ ص: 211 ] الثمن . فإن أتلفها المشتري ، أو تلفت عنده ، لزمه قيمتها أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف ، ويشتري الناذر بتلك القيمة مثل التالفة ، جنسا ونوعا وسنا . فإن لم يجد بالقيمة المثل لغلاء حدث ، ضم إليها من ماله تمام الثمن . وهذا معنى قول الأصحاب : يضمن ما باع بأكثر الأمرين من قيمته ومثله ، وإن كانت القيمة أكثر من ثمن المثل ، لرخص حدث ، فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في نظيره . ثم إن اشترى المثل بعين القيمة ، صار المشترى ضحية بنفس الشراء . وإن اشتراه في الذمة ، ونوى عند الشراء أنها أضحية ، فكذلك ، وإلا فليجعله بعد الشراء ضحية . المسألة الثانية : كما لا يصح بيع الأضحية المعينة ، لا يصح إجارتها ، ويجوز إعارتها ، لأنها إرفاق ، فلو أجرها فركبها المستأجر فتلفت ، لزم المؤجر قيمتها ، والمستأجر الأجرة . وفي الأجرة ، وجهان . أصحهما : أجرة المثل . والثاني : الأكثر من أجرة المثل والمسمى . ثم هل يكون مصرفها مصرف الضحايا ، أم الفقراء فقط ؟ وجهان .

قلت : أصحهما : الأول . والله أعلم .

الثالثة : إذا قال : جعلت هذه البدنة ، أو

[ هذه ] الشاة ، ضحية ، أو نذر أن يضحي ببدنة أو شاة عينها ، فماتت قبل يوم النحر ، أو سرقت قبل تمكنه من ذبحها يوم النحر ، فلا شيء عليه . وكذا الهدي المعين ، إذا تلف قبل بلوغ المنسك أو بعده قبل التمكن من ذبحه .

الرابعة : إذا كان في ذمته دم عن تمتع ، أو قران . أو أضحية ، أو هدي عن نذر مطلق ، ثم عين بدنة أو شاة عما في ذمته ، فقد سبق خلاف في تعيينه ، والأصح التعيين . وحينئذ المذهب : زوال الملك عنها كالمعينة ابتداء ، [ ص: 212 ] لكن لو تلفت ، ففي وجوب الإبدال طريقان . قطع الجمهور بالوجوب ؛ لأن ما التزمه ثبت في ذمته ، والمعين وإن زال الملك عنه ، فهو مضمون عليه ، كما لو كان له دين على رجل ، فاشترى منه سلعة بذلك الدين ، فتلفت السلعة قبل القبض في يد بائعها ، فإنه ينفسخ البيع ، ويعود الدين كما كان ، فكذا هنا يبطل التعيين ، ويعود ما في ذمته كما كان . والطريق الثاني : فيه وجهان نقلهما الإمام . أحدهما : لا يجب الإبدال ، لأنها متعينة ، فهي كما لو قال : جعلت هذه أضحية .

الخامسة : إذا أتلفها أجنبي ، لزمه القيمة ، يأخذها المضحي ، ويشتري بها مثل الأولى ، فإن لم يجد بها مثلها ، اشترى دونها ، بخلاف ما لو نذر إعتاق عبد بعينه فقتل ، فإنه يأخذ القيمة لنفسه ، ولا يلزمه أن يشتري بها عبدا يعتقه ؛ لأن ملكه هنا لم يزل عنه ومستحق العتق هو العبد ، وقد هلك ، ومستحقو الأضحية باقون . فإن لم يجد بالقيمة ما يصلح للهدي والأضحية ، ففي " الحاوي " : أنه يلزم المضحي أن يضم من عنده إلى القيمة ما يحصل به أضحية ؛ لأنه التزمها . ومن قال بهذا ، يمكن أن يطرده في اللف . وهذا الذي في " الحاوي " شاذ . والصحيح الذي عليه الجمهور : أنه لا شيء عليه ، لعدم تقصيره . فعلى هذا إن أمكن أن يشتري بها شقص هدي ، أو أضحية ، ففيه ثلاثة أوجه : الأصح : أنه يلزمه شراؤه والذبح مع الشريك ، ولا يجوز إخراج القيمة ، كأصل الأضحية ، والثاني : يجوز إخراج القيمة دراهم . فعلى هذا أطلق مطلقون : أنه يتصدق بها . وقال الإمام : يصرفها مصرف الضحايا ، حتى لو أراد أن يتخذ منه خاتما يقتنيه ولا يبيعه ، فله ذلك ، وهذا أوجه . ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق ، بل المراد : أن لا يجب شقص ، ويجوز إخراج الدراهم ، وقد يتساهل في ذكر المصرف في مثل هذا .

[ ص: 213 ] قلت : هذا الذي حكاه عن الإمام ، من جواز اتخاذ الخاتم ، تفريع على جواز الأكل من الأضحية الواجبة . والله أعلم .

والوجه الثالث : يشتري بها لحما ، ويتصدق به . وأما إذا لم يمكن

[ أن يشتري ] بها شقصا ، لقلتها ، ففيه الوجه الثاني والثالث . ورتب صاحب " الحاوي " هذه الصور ترتيبا حسنا ، فقال : إن كان المتلف ثنية ضأن مثلا ، ولم يمكن أن يشتري بالقيمة مثلها ، وأمكن شراء جذعة ضأن وثنية معز ، تعين الأول رعاية للنوع ، وإن أمكن ثنية معز ودون جذعة ضأن ، تعين الأول ؛ لأن الثاني لا يصلح للضحية ، وإن أمكن دون الجذعة ، وشراء سهم في ضحية ، تعين الأول ؛ لأن التضحية لا تحصل بواحد منهما ، وفي الأول إراقة دم كامل . وإن أمكن شراء لحم ، وشراء سهم ، تعين الأول ؛ لأن فيه شركة في إراقة دم . وإن لم يمكن إلا شراء اللحم وتفرقة الدراهم ، تعين الأول ؛ لأنه مقصود الأضحية .

السادسة : إذا أتلفها المضحي فوجهان . أحدهما : يلزمه قيمتها يوم الإتلاف كالأجنبي . وأصحهما : يلزمه أكثر الأمرين من قيمتها وتحصيل مثلها ، كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري . فعلى هذا لو كانت قيمتها يوم الإتلاف أكثر ، وأمكن شراء مثل الأولى ببعضها ، اشترى بها كريمة أو شاتين فصاعدا . فإن لم توجد كريمة ، وفضل ما لا يفي بأخرى ، فعلى ما ذكرنا فيما إذا أتلفها أجنبي ولم تف القيمة بشاة . وهنا وجه آخر : أن له صرف ما فضل عن شاة إلى غير المثل ؛ لأن الزيادة بعد حصول المثل كابتداء تضحية . ووجه : أنه يملك ما فضل .

السابعة : إذا تمكن من ذبح الهدي بعد بلوغه المنسك ، أو من ذبح الأضحية يوم النحر ، فلم يذبح حتى هلك ، فهو كالإتلاف لتقصيره بتأخيره .

الثامنة : استحب الشافعي رحمه الله ، أن يتصدق بالفاضل الذي لا يبلغ شاة [ ص: 214 ] أخرى ، ولا يأكل منه شيئا . وفي معناه : البدل الذي يذبحه . وفي وجه لأبي علي الطبري : لا يجوز أكله منه ، لتعديه بالإتلاف .

التاسعة : إذا جعل شاته أضحية ، أو نذر أن يضحي بمعينة ، ثم ذبحها قبل يوم النحر ، لزمه التصدق بلحمها ، ولا يجوز له أكل شيء منه ، ويلزمه ذبح مثلها يوم النحر بدلا عنها . وكذا لو ذبح الهدي المعين قبل بلوغ المنسك ، تصدق بلحمه ، وعليه البدل . ولو باع الهدي أو الأضحية المعينين ، فذبحها المشتري ، واللحم باق ، أخذه البائع وتصدق به ، وعلى المشتري أرش ما نقص بالذبح ، ويضم البائع إليه ما يشتري به البدل . وفي وجه : لا يغرم المشتري شيئا ؛ لأن البائع سلطه . والصحيح : الأول . ولو ذبح أجنبي الأضحية المعينة قبل يوم النحر لزمه ما نقص من القيمة بسبب الذبح . ويشبه أن يجيء خلاف في أن اللحم يصرف إلى مصارف الضحايا ، أم ينفك عن حكم الأضحية ويعود ملكه ، كما سنذكر مثله إن شاء الله تعالى ، فيما لو ذبح الأجنبي يوم النحر ، وقلنا : لا يقع ضحية ؟ ثم ما حصل من الأرش من اللحم ، إن عاد ملكا له ، اشترى به أضحية يذبحها يوم النحر . ولو نذر أضحية ، ثم عين شاة عما في ذمته ، فذبحها أجنبي قبل يوم النحر ، أخذ اللحم ونقصان الذبح ، وملك الجميع ، وبقي الأصل في ذمته .

العاشرة : لو ذبح أجنبي أضحية معينة ابتداء في وقت التضحية ، أو هديا معينا بعد بلوغه المنسك ، فالمشهور : أنه يقع الموقع ، فيأخذ صاحب الأضحية لحمها ويفرقه ؛ لأنه مستحق الصرف إلى هذه الجهة فلا يشترط فعله كرد الوديعة ، ولأن ذبحها لا يفتقر إلى النية . فإذا فعله غيره ، أجزأ كإزالة النجاسة . وحكي قول عن القديم : أن لصاحب الأضحية أن يجعلها عن الذابح ، ويغرمه القيمة بكمالها بناء على وقف العقود . فإذا قلنا بالمشهور ، فهل على الذابح أرش ما نقص بالذبح ؟ فيه طريقان . أحدهما : على قولين . وقيل : وجهين . أحدهما : لا ؛ لأنه لم يفوت مقصودا ، بل خفف مؤنة الذبح . وأصحهما ، وهو المنصوص ، وهو [ ص: 215 ] الطريق الثاني ، وبه قطع الجمهور : نعم ؛ لأن إراقة الدم مقصودة وقد فوتها ، فصار كما لو شد قوائم شاته ليذبحها ، فجاء آخر فذبحها بغير إذنه ، فإنه يلزمه أرش النقص . وقال الماوردي : عندي أنه إذا ذبحها وفي الوقت سعة ، لزمه الأرش ، وإن لم يبق إلا ما يسع ذبحها فذبحها ، فلا أرش ، لتعين الوقت . وإذا أوجبنا الأرش ، فهل هو للمضحي لأنه ليس من عين الأضحية ولا حق للمساكين في غيرها ؟ أم للمساكين لأنه بدل نقصها وليس للمضحي إلا الأكل ؟ أم سلك به مسلك الضحايا ؟ فيه أوجه . أصحها : الثالث . فعلى هذا ، يشتري به شاة . فإن لم تتيسر ، عاد الخلاف السابق أنه يشتري به جزء ضحية أو لحم ، أو يفرق نفسه ، هذا كله إذا ذبح الأجنبي واللحم باق ، فإن أكله أو فرقه

[ في ] مصارف الضحية ، وتعذر استرداده ، فهو كالإتلاف بغير ذبح ؛ لأن تعيين المصروف إليه ، إلى المضحي ، فعليه الضمان ، والمالك يشتري بما يأخذه أضحية . وفي وجه : تقع التفرقة عن المالك ، كالذبح . والصحيح : الأول .

وفي الضمان الواجب قولان : المشهور ، واختيار الجمهور : أنه يضمن قيمتها عند الذبح ، كما لو أتلفها بلا ذبح . والثاني : يضمن الأكثر من قيمتها وقيمة اللحم

[ لأنه فرق اللحم متعديا . وقيل : يغرم أرش الذبح وقيمة اللحم ] وقد يزيد الأرش مع قيمة اللحم على قيمة الشاة ، وقد ينقص ، وقد يتساويان . ولا اختصاص لهذا الخلاف بصورة الضحية ، بل يطرد في كل من ذبح شاة إنسان ثم أتلف لحمها . هذا كله تفريع على أن الشاة التي ذبحها الأجنبي تقع ضحية . فإن قلنا : لا تقع ، فليس على الذابح إلا أرش النقص . وفي حكم اللحم ، وجهان . أحدهما : أنه مستحق لجهة الأضحية . والثاني : يكون ملكا له . ولو التزم ضحية أو هديا بالنذر ، ثم عين شاة عما في ذمته ، فذبحها أجنبي يوم النحر ، أو في الحرم ، فالقول في وقوعها عن صاحبها وفي أخذه اللحم وتصدقه به ، وفي غرامة الذابح أرش ما نقص بالذبح ، على ما ذكرنا إذا كانت معينة في الابتداء . فإن كان اللحم تالفا ، قال صاحب " التهذيب " وغيره : يأخذ القيمة [ ص: 216 ] ويملكها ، ويبقى الأصل في ذمته . وفي هذا اللفظ ما يبين أن قولنا في صورة الإتلاف : يأخذ القيمة ويشتري بها مثل الأول ، يريد به : أن يشتري بقدرها ، فإن نفس المأخوذ ملكه ، فله إمساكه .

التالي السابق


الخدمات العلمية