صفحة جزء
الفصل الثاني : في الأكل من الأضحية والهدي المتطوع بهما . وليس له أن يتلف منهما شيئا ، بل يأكل ويطعم ، ولا يجوز بيع شيء منهما ، ولا أن يعطي الجزار شيئا منهما أجرة له ، بل مؤنة الذبح على المضحي والمهدي كمؤنة الحصاد . ويجوز أن يعطيه منهما شيئا لفقره ، أو يطعمه إن كان غنيا . ولا يجوز تمليك الأغنياء منهما ، وإن جاز إطعامهم . ويجوز تمليك الفقراء منهما ، ليتصرفوا فيه بالبيع وغيره . بل لو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء ، قال الإمام : الذي ينقدح عندي إذا أوجبنا التصدق بشيء : أنه لا بد من التمليك كما في الكفارات ، وكذا صرح به الروياني فقال : لا يجوز أن يدعو الفقراء ليأكلوه مطبوخا ؛ لأن حقهم في تملكه فإن دفع مطبوخا ، لم يجز ، بل يفرقه نيئا ، فإن المطبوخ ، كالخبز في الفطرة . وهل يشترط التصدق بشيء منهما ، أم يجوز أكل الجميع ؟ وجهان . أحدهما : يجوز أكل الجميع ، قاله ابن سريج ، وابن القاص ، والاصطخري ، وابن الوكيل ، وحكاه ابن القاص عن نصه . قالوا : ويحصل [ ص: 223 ] الثواب بإراقة الدم بنية القربة ، وأصحهما : يجب التصدق بقدر ينطلق عليه الاسم ؛ لأن المقصود إرفاق المساكين . فعلى هذا ، إن أكل الجميع لزمه ضمان ما ينطلق عليه الاسم ، وفي قول ، أو وجه : يضمن القدر الذي يستحب أن لا ينقص في التصدق عنه ، وسيأتي فيه قولان ، هل هو النصف ، أم الثلث ؟ وحكى ابن كج والماوردي وجها : أنه يضمن الجميع بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها ؛ لأنه بأكله الكل ، عدل عن حكم الضحية ، فكأنه أتلفها . وينسب هذا إلى أبي إسحاق ، وابن أبي هريرة . وعلى هذا ، يذبح البدل في وقت التضحية . فإن أخره أيام التشريق ، ففي إجزائه وجهان . وفي جواز الأكل من البدل وجهان . وهذا الوجه المذكور عن ابن كج ، وما تفرع عليه ، شاذ ضعيف . والمعروف ، ما سبق من الخلاف . ثم ما يضمنه على الخلاف السابق ، لا يتصدق به ورقا . وهل يلزمه صرفه إلى شقص أضحية ، أم يكفي صرفه إلى اللحم وتفرقته ؟ وجهان : وعلى الوجهين : يجوز تأخير الذبح والتفريق عن أيام التشريق ؛ لأن الشقص ليس بأضحية ، فلا يعتبر فيه وقتها ، ولا يجوز أن يأكل منه .

فرع

الأفضل والأحسن في هدي التطوع وأضحيته ، التصدق بالجميع إلا لقمة ، أو لقما يتبرك بأكلها ، فإنها مسنونة . وحكى في " الحاوي " عن أبي الطيب بن سلمة : أنه لا يجوز التصدق بالجميع ، بل يجب أكل شيء . وفي القدر الذي يستحب أن لا ينقص التصدق عنه قولان : القديم : يأكل النصف ، ويتصدق بالنصف ، واختلفوا في التعيين عن الجديد . فنقل جماعة عنه : أنه يأكل الثلث ، ويتصدق بالثلثين . ونقل آخرون عنه : أنه يأكل الثلث ، ويهدي إلى الأغنياء الثلث ، ويتصدق بالثلث . وكذا حكاه الشيخ أبو حامد ، ثم قال : ولو تصدق بالثلثين كان أحب . ويشبه أن [ ص: 224 ] لا يكون اختلاف في الحقيقة ، لكن من اقتصر على التصدق بالثلثين ، ذكر الأفضل ، أو توسع فعد الهدية صدقة . والمفهوم من كلام الأصحاب : أن الهدية لا تغني عن التصدق بشيء إذا أوجبناه ، وأنها لا تحسب من القدر الذي يستحب التصدق به ، ويجوز صرف القدر الذي لا بد منه إلى مسكين واحد ، بخلاف الزكاة .

فرع

يجوز أن يدخر من لحم الأضحية ، وكان ادخارها فوق ثلاثة أيام قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أذن فيه . قال الجمهور : كان نهي تحريم . وقال أبو علي الطبري : يحتمل التنزيه . وذكروا على الأول وجهين ، في أن النهي كان عاما ، ثم نسخ ، أم كان مخصوصا بحالة الضيق الواقع في تلك السنة ، فلما زالت انتهى التحريم ؟ ووجهين على الثاني : في أنه لو حدث مثل ذلك في زماننا وبلادنا ، هل يحكم به ؟ والصواب المعروف : أنه لا يحرم اليوم بحال . وإذا أراد الادخار ، فالمستحب أن يكون من نصيب الأكل ، لا من نصيب الصدقة والهدية . وأما قول الغزالي في الوجيز : يتصدق بالثلث ، ويأكل الثلث ، ويدخر الثلث ، فبعيد منكر نقلا ومعنى ، فإنه لا يكاد يوجد في كتاب متقدم ولا متأخر ، والمعروف الصواب : ما قدمناه .

قلت : قال الشافعي رحمه الله في " المبسوط " : أحب أن لا يتجاوز بالأكل والادخار الثلث ، أن يهدي الثلث ، ويتصدق بالثلث ، هذا نصه بحروفه ، وقد نقله أيضا القاضي أبو حامد في جامعه ، ولم يذكر غيره . وهذا تصريح بالصواب ، ورد لما قاله الغزالي . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية