صفحة جزء
[ ص: 249 ] الركن الرابع : نفس الذبح ، وعقر الصيد .

أما نفس الذبح ، فسبق في باب الأضحية . وأما العقر الذي يبيح الصيد بلا ذكاة ، فهو الجرح المقصود المزهق الوارد على حيوان وحشي . أما الجرح ، فيخرج عنه الخنق والوقذ ونحوهما . وأما القصد ، فله ثلاث مراتب :

الأولى : قصد أصل الفعل الجارح . فلو كان في يده سكين ، فسقط فانجرح به صيد ومات ، أو نصب سكينا أو منجلا أو حديدة فانعقر به صيد ومات أو كان في يده سكين فاحتكت بها شاة ، فانقطع حلقومها ، أو وقعت على حلقها فقطعته ، فهي حرام . وحكي وجه عن أبي إسحاق : أنه تحل الشاة في صورة وقوع السكين من يده ، ولا شك أن الصيد في معناها ، وهذا الوجه شاذ ضعيف . ولو كان في يده حديدة فحركها ، وحكت الشاة أيضا حلقها بالحديدة فحصل انقطاع حلقها بالحركتين ، فهي حرام .

فرع

إذا استرسل الكلب المعلم بنفسه ، فقتل صيدا ، فهو حرام . فلو أكل منه ، لم يقدح ذلك في كونه معلما ، بلا خلاف ، وإنما يعتبر الإمساك إذا أرسله صاحبه . ولو زجره صاحبه لما استرسل ، فانزجر ووقف ، ثم أغراه فاسترسل وقتل الصيد ، حل بلا خلاف . وإن لم ينزجر ومضى على وجهه ، لم يحل ، سواء زاد عدوه وحدته أم لا . فلو لم يزجره ، بل أغراه ، فإن لم يزد عدوه فحرام . وكذا إذا زاد على الأصح . فإن كان الإغراء وزيادة العدو بعدما زجره ، فلم ينزجر ، فعلى الوجهين ، وأولى بالتحريم ، وبه قطع العراقيون . ولو أرسل مسلم كلبا ، فأغراه مجوسي فازداد عدوه ، فإن قلنا في الصورة السابقة : لا ينقطع حكم [ ص: 250 ] الاسترسال ، ولا يؤثر الإغراء ، حل هنا . ولا يؤثر إغراء المجوسي . وإن قطعناه ، وأحلنا على الإغراء ، لم يحل هنا ، كذا ذكر الجمهور هذا البناء . وقطع في " التهذيب " : بالتحريم . واختاره القاضي أبو الطيب ؛ لأنه قطع للأول أو مشاركة ، وكلاهما يحرمه .

ولو أرسل مجوسي كلبا فأغراه مسلم ، فازداد عدوه ، فوجهان بناء على عكس ما تقدم ، ومنهم من قطع بالتحريم . ولو أرسل مسلم كلبه ، فزجره فضولي فانزجر ، ثم أغراه فاسترسل ، فأخذ صيدا ، فلمن يكون الصيد ؟ وجهان : أصحهما : للغاصب . ولو زجره فلم ينزجر ، فأغراه ، أو لم يزجره ، بل أغراه وزاد عدوه ، وقلنا : الصيد للغاصب ، خرج على الخلاف في أن الإغراء يقطع حكم الابتداء ، أم لا ؟ إن قلنا : لا ، وهو الأصح ، فالصيد لصاحب الكلب ، وإلا فللغاصب الفضولي . قال الإمام : ولا يمتنع تخريج وجه باشتراكهما .

فرع

لو أصاب السهم الصيد بإعانة الريح ، وكان يقصر عنه لولا الريح ، حل قطعا ؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عن هبوبها ، هكذا صرح به الأصحاب كلهم ، وأبدى الإمام فيه ترددا . ولو أصاب الأرض أو انصدم بحائط ثم ازدلف وأصاب الصيد ، أو أصاب حجرا فنبا عنه وأصاب الصيد أو نفذ فيه إلى الصيد ، أو كان الرامي في نزع القوس فانقطع الوتر وصدم الفوق فارتمى السهم وأصاب الصيد ، حل على الأصح .

المرتبة الثانية : قصد جنس الحيوان ، فلو أرسل سهما في الهواء ، أو فضاء من الأرض ، لاختبار قوته ، أو رمى إلى هدف ، فاعترض صيدا فأصابه وقتله ، وكان لا يخطر له الصيد ، أو كان يراه ، ولكن رمى إلى الهدف . أو ذئب ، [ ص: 251 ] ولا يقصد الصيد فأصابه ، لم يحل على الأصح المنصوص ، لعدم قصده . ولو كان يجيل سيفه فأصاب عنق شاة وقطع الحلقوم والمريء من غير علم بالحال ، فقطع الإمام وغيره : بأنها ميتة قد يجيء في هذا الخلاف وأيضا الوجه المنقول فيما لو وقع السكين من يده . ولو أرسل كلبا حيث لا صيد ، فاعترض صيدا فقتله ، لم يحل على المذهب .

وفي " الكافي " للروياني وغيره : فيه وجهان ، ولو رمى ما ظنه حجرا ، أو جرثومة ، أو آدميا معصوما ، أو غير معصوم ، أو خنزيرا ، أو حيوانا آخر محرما ، فكان صيدا فقتله ، أو ظنه صيدا غير مأكول فكان مأكولا ، أو قطع في ظلمة ما ظنه ثوبا ، فكان حلق شاة ، فانقطع الحلقوم والمريء ، أو أرسل كلبا إلى شاخص يظنه حجرا ، فكان صيدا ، أو لم يغلب على ظنه شيء من ذلك ، أو ذبح في ظلمة حيوانا يظنه محرما ، فبان أنه ذبح شاة ، حل جميع ذلك على الصحيح . ولو رمى إلى شاته الربيطة سهما جارحا ، فأصاب الحلقوم والمريء وفاقا ، وقطعهما ، ففي حل الشاة مع القدرة على ذبحها احتمال للإمام ، وقال : ويجوز أن يفرق بين أن يقصد المذبح بسهمه ، وبين أن يقصد الشاة فيصيب المذبح .

قلت : الأرجح : الحل . والله أعلم .

المرتبة الثالثة : قصد عين الحيوان ، فإذا رمى صيدا يراه ، أو لا يراه ، لكن يحس به في ظلمة ، أو من وراء حجاب ، بأن كان بين أشجار ملتفة وقصده ، حل ، فإن لم يعلم به ، بأن رمى وهو لا يرجو صيدا فأصاب صيدا ، ففيه الخلاف السابق في المرتبة الثانية . وإن كان يتوقع صيدا فبنى الرمي عليه ، بأن رمى في ظلمة الليل وقال : ربما أصبت صيدا فأصابه ؛ فأوجه : أصحها : التحريم . والثاني : يحل . والثالث : إن توقعه بظن غالب ، حل ، وإن كان مجرد تجويز ، حرم . ولو رمى إلى سرب من الظباء ، أو أرسل كلبا فأصاب واحدة منها ، فهي حلال [ ص: 252 ] قطعا . ولو قصد منها ظبية بالرمي ، فأصاب غيرها ؛ فأوجه : أصحها : الحل مطلقا . والثاني : التحريم . والثالث : إن كان حالة الرمي يرى المصاب حل ، وإلا فلا . والرابع : إن كان المصاب من السرب الذي رآه ورماه ، حل ، وإلا فلا . ومنهم من قطع بالحل ، وسواء عدل السهم عن الجهة التي قصدها إلى غيرها ، أم لا . ولو رمى شاخصا يعتقده حجرا ، وكان حجرا ، فأصاب ظبية ، لم تحل على الأصح ، وبه قطع الصيدلاني وغيره . وإن كان الشاخص صيدا ، ومال السهم عنه وأصاب صيدا آخر ، ففيه الوجهان ، وأولى بالحل . ولو رمى شاخصا ظنه خنزيرا ، وكان خنزيرا ، أو صيدا فلم يصبه ، وأصاب ظبية ، لم يحل على الأصح فيهما ؛ لأنه قصد محرما . والخلاف فيما إذا كان خنزيرا أضعف .

ولو رمى شاخصا ظنه صيدا ، فبان حجرا أو خنزيرا ، أو أصاب السهم صيدا ، قال في " التهذيب " : إن اعتبرنا ظنه فيما إذا رمى ما ظنه حجرا ، فكان صيدا ، وأصاب السهم صيدا آخر ، وقلنا بالتحريم ، فهنا يحل الصيد الذي أصابه . وإن اعتبرنا الحقيقة ، وقلنا بالحل هناك ، حرم هنا .

وأما إذا أرسل كلبا على صيد ، فقتل صيدا آخر ، فينظر ، إن لم يعدل عن جهة الإرسال ، بل كان فيها صيودا ، فأخذ غير ما أغراه عليه ، حل على الصحيح كما في السهم ، وإن عدل إلى جهة أخرى فأوجه : أصحها : الحل ؛ لأنه تعسر تكليفه ترك العدول ، ولأن الصيد لو عدل فتبعه ، حل قطعا . والثاني : يحرم . والثالث وهو اختيار صاحب " الحاوي " : إن خرج عادلا عن الجهة ، حرم ، وإن خرج إليها ففاته الصيد ، فعدل إلى غيرها وصاد ، حل ؛ لأنه يدل على حذقه حيث لم يرجع خائبا . وقطع الإمام بالتحريم إذا عدل وظهر من عدوله واختياره بأن امتد في جهة الإرسال زمانا ثم ثار صيد آخر فاستدبر المرسل إليه وقصد الآخر .

وأما كون الجرح مزهقا ، فيخرج منه ما لو مات بصدمة أو افتراس سبع ، أو أعان ذلك الجرح غيره على ما بينا في نظائره ، فلا يحل . ولو غاب عنه الكلب والصيد ، ثم وجده ميتا ، لم يحل على الصحيح ، لاحتمال موته بسبب آخر ، ولا أثر لتضمخه بدمه ، فربما جرحه الكلب وأصابته جراحة أخرى . وإن جرحه [ ص: 253 ] فغاب ، ثم أدركه ميتا ، فإن انتهى إلى حركة المذبوح بالجرح ، حل ، ولا أثر لغيبته . وإن لم ينته ، فإن وجد في ماء ، أو وجد عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى ، لم يحل . وإن لم يكن عليه أثر آخر ، فثلاث طرق . أحدها : يحل قطعا . والثاني : يحرم قطعا . وأصحها على قولين . أظهرهما عند الجمهور من العراقيين وغيرهم : التحريم . وأظهرهما عند صاحب " التهذيب " : التحليل ، وتسمى هذه : مسألة الإنماء .

قلت : الحل أصح دليلا . وصححه أيضا الغزالي في " الإحياء " : وثبتت فيه الأحاديث الصحيحة ، ولم يثبت في التحريم شيء ، وعلق الشافعي الحل على صحة الحديث . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية