صفحة جزء
الفصل الثاني

في أحكام النذر

إذا صح النذر ، لزم الوفاء به . والمعتبر فيه : مقتضى ألفاظ الالتزام . والملتزمات أنواع .

الأول : الصوم ، فإن أطلق التزامه ، فقال : لله علي صوم ، أو أن أصوم ، لزمه صوم يوم . ويجيء فيه وجه ضعيف : أنه يكفيه إمساك بعض يوم ، بناء على أن النذر ينزل على أقل ما يصح من جنسه ، وأن إمساك بعض اليوم صوم ، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى . ولو نذر صوم أيام وقدرها ، فذاك . وإن أطلق ذكر الأيام ، لزمه ثلاثة . ولو قال : أصوم دهرا أو حينا ، كفاه صوم يوم .

[ ص: 306 ] فرع :

هل يجب تبييت النية في الصوم المنذور ، أم تكفي نيته قبل الزوال ؟ يبنى ذلك على أنه إذا التزم عبادة بالنذر وأطلقها ، فعلى أي شيء ينزل نذره ؟ فيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي - رحمه الله - .

أحدهما : ينزل على أقل واجب من جنسه يجب بأصل الشرع ؛ لأن المنذور واجب ، فجعل كواجب بالشرع ابتداء . والثاني : ينزل على أقل ما يصح من جنسه . وقد يقال : على أقل جائز الشرع ؛ لأن لفظ الناذر لا يقتضي التزام زيادة عليه . وهذا الثاني ، أصح عند الإمام ، والغزالي ، ولكن الأول أصح ، فقد صححه العراقيون ، والروياني ، وغيرهم . فإن قلنا بالقول الأول ، أوجبنا التبييت ، وإلا ، جوزناه بنية من النهار ، هذا إذا أطلق نذر الصوم . فأما إذا نذر صوم يوم أو أيام ، فصحته بنية النهار مع التنزيل على أقل ما يصح ، تنبني على أصل آخر ، وهو أن صوم التطوع إذا نواه نهارا ، هل يكون صائما من وقت النية ، أم من أول النهار ؟ وفيه خلاف سبق في بابه .

والأصح : الثاني . فإن قلنا به ، صح صوم الناذر بنية النهار ، وإلا ، وجب التبييت . وينبني على القولين في تنزيل النذر ، مسائل :

منها : لو نذر أن يصلي وأطلق ، إن قلنا بالقول الثاني ، فركعة ، وإلا ، فركعتان ، وهو المنصوص .

ومنها : جواز الصلاة قاعدا مع القدرة على القيام ، فيه وجهان بناء عليهما . فلو نذر أن يصلي قاعدا ، جاز القعود قطعا ، كما لو صرح بنذر ركعة ، أجزأته قطعا . فإن صلى قائما ، فهو أفضل . ولو نذر أن يصلي قائما ، لزمه القيام قطعا . ولو نذر أن يصلي ركعتين ، فصلى أربعا بتسليمة واحدة بتشهد أو بتشهدين ، قطع صاحب " التهذيب " بجوازه . وفي التتمة : فيه وجهان . ويمكن بناؤه على [ ص: 307 ] الأصل السابق : إن نزلنا على واجب الشرع ، لم يجزئه كما لو صلى الصبح أربعا ، وإلا ، أجزأه . وإن نذر أربع ركعات ، فإن نزلنا على واجب الشرع ، أمرناه بتشهدين . فإن ترك الأول ، سجد للسهو ، ولا يجوز أداؤها بتسليمتين . وإن نزلنا على الجائز . تخير ، إن شاء أداها بتشهد ، وإن شاء بتشهدين . ويجوز بتسليمتين ، بل هو أفضل .

قلت : الأصح : أنه يجوز بتسليمتين . والفرق بين هذه المسألة وباقي المسائل المخرجة على هذا الأصل عليه ، وقوع الصلاة مثنى ، وزيادة فضلها . والله أعلم .

ولو نذر أن يصلي ركعتين على الأرض مستقبلا القبلة ، لم يجز فعلهما على الراحلة . ولو نذر فعلهما على الراحلة ، فله فعلهما على الأرض مستقبلا . وإن أطلق ، فعلى أيهما يحصل ؟ فيه خلاف مبني على هذا الأصل . وأما لو نذر أن يتصدق ، فإنه لا يحمل على خمسة دراهم ، أو نصف دينار ، بل يجزئه أن يتصدق بدانق ودونه مما يتمول ؛ لأن الصدقة الواجبة في الزكاة غير منحصرة في نصاب الذهب والفضة ، بل تكون في صدقة الفطر وفي الخلطة .

ومنها : إذا نذر إعتاق رقبة ، فإن نزلنا على واجب الشرع ، لزمه رقبة مؤمنة سليمة ، وإلا ، أجزأه كافرة معيبة . قال الداركي : الأول أصح .

قلت : الأصح عند الأكثرين : الثاني . منهم المحاملي ، وصاحبا " التنبيه " و " المستظهري " ، وهو الراجح في الدليل . والله أعلم .

فلو قيد ، فقال : لله علي إعتاق رقبة مؤمنة سليمة ، لم تجزئه الكافرة ولا المعيبة قطعا . ولو قال : كافرة ، أو معيبة ، أجزأته قطعا . ولو أعتق مسلمة ، أو سليمة ، فقيل : لا تجزئه ، والصحيح : أنها تجزئه ؛ لأنها أكمل ، وذكر الكفر والعيب ، ليس للتقرب ، بل لجواز الاقتصار على الناقص ، فصار كمن نذر التصدق بحنطة رديئة ، يجوز له التصدق بالجيدة . ولو قال : علي أن أعتق هذا الكافر ، أو المعيب ، لم يجزئه غيره ، [ ص: 308 ] لتعلق النذر بعينه . أما لو نذر أن يعتكف ، فليس جنس الاعتكاف واجبا بالشرع ، وقد سبق في بابه وجهان في أنه هل يشترط اللبث ، أم يكفي المرور في المسجد مع النية ؟ والأول أصح . فعلى هذا لا بد من لبث ، ويخرج عن النذر بلبث ساعة ، ويستحب أن يمكث يوما . وإن اكتفينا بالمرور ، فللإمام فيه احتمالان .

أحدهما : يشترط لبث ؛ لأن لفظ الاعتكاف يشعر به . والثاني : لا ، حملا له على حقيقته شرعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية