صفحة جزء
فصل

في حقيقة القبض .

والقول الجملي فيه ، أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة . ويختلف بحسب اختلاف المال . وتفصيله أن المبيع نوعان .



[ ص: 517 ] [ النوع ] الأول : ما لا يعتبر فيه تقدير ، إما لعدم إمكانه ، وإما مع إمكانه ، فينظر ، إن كان مما لا ينقل كالأرض والدور ، فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري ، وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه . ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه ، ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع ، فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع ، توقف التسليم على تفريغها ، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش .

قلت : وقد حكى الرافعي بعد هذا وجها عند بيع الأرض المزروعة في باب الألفاظ المطلقة في البيع ، أنه لا يصح بيع الدار المشحونة ، وأن إمام الحرمين ادعى أنه ظاهر المذهب . والله أعلم .

ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار ، وخلى بين المشتري وبين الدار ، حصل القبض فيما عدا ذلك البيت . وفي اشتراط حضور المتبايعين عند المبيع ، ثلاثة أوجه

أحدها : يشترط ، فإن حضرا عنده فقال البائع للمشتري : دونك هذا ولا مانع ، حصل القبض ، وإلا فلا . والثاني : يشترط حضور المشتري دون البائع . وأصحها : لا يشترط حضور واحد منهما ; لأن ذلك يشق . فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي ؟ وجهان .

أصحهما : نعم . وفي معنى الأرض الشجر الثابت ، والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجداد . وإن كان المبيع من المنقولات ، فالمذهب والمشهور : أنه لا يكفي فيه التخلية ، بل يشترط النقل والتحريك . وفي قول رواه حرملة : يكفي . وفي وجه : يكفي لنقل الضمان إلى المشتري ، ولا يكفي لجواز تصرفه . فعلى المذهب : يأمر العبد بالانتقال من موضعه ، ويسوق الدابة أو يقودها .

قلت : ولا يكفي استعماله [ الدابة ] وركوبها بلا نقل ، وكذا وطء الجارية على الصحيح . ذكره في البيان . والله أعلم .

[ ص: 518 ] وإذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع ، كموات ومسجد وشارع ، أو في موضع يختص بالمشتري ، فالتحويل إلى مكان منه كاف . وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع ، فالنقل من زاوية منه إلى زاوية ، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف ، ويكفي لدخوله في ضمانه . وإن نقل بإذنه ، حصل القبض ، وكأنه استعار ما نقل إليه . ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة ، فخلى البائع بينها وبينه ، حصل القبض في الدار . وفي الأمتعة وجهان .

أصحهما : يشترط نقلها كما لو أفردت . والثاني : يحصل فيها القبض تبعا ، وبه قطع الماوردي وزاد فقال : لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة ، وخلى البائع بينه وبينها ، حصل القبض في الصبرة .

قلت : قال : ولو استأجرها ، فوجهان . الصحيح : أنه ليس قبضا . والله أعلم .

فرع

لو لم يتفقا على القبض ، فجاء البائع بالمبيع ، فامتنع المشتري من قبضه ، أجبره الحاكم عليه . فإن أصر ، أمر الحاكم من يقبضه عنه ، كما لو كان غائبا .

فرع

لو جاء البائع بالمبيع ، فقال المشتري : ضعه ، فوضعه بين يديه ، حصل القبض ، وإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا ، أو قال : لا أريده ، [ ص: 519 ] فوجهان . أحدهما : لا يحصل القبض ، كما لا يحصل الإيداع . وأصحهما : يحصل ، لوجوب التسليم ، كما لو وضع

[ الغاصب ] المغصوب بين يدي المالك ، يبرأ من الضمان . فعلى هذا ، للمشتري التصرف فيه ، ولو تلف ، فمن ضمانه . لكن لو خرج مستحقا ولم نجز إلا وضعه ، فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان ; لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب . ولو وضع المديون الدين بين يدي مستحقه ، ففي حصول التسليم خلاف مرتب على المبيع ، وأولى بعدم الحصول ، لعدم تعين الدين فيه .

فرع

للمشتري الاستقلال بنقل المبيع ، إن كان دفع الثمن ، أو كان مؤجلا ، كما للمرأة قبض الصداق بغير إذن الزوج إذا سلمت نفسها ، وإلا فلا ، وعليه الرد ; لأن البائع يستحق الحبس لاستيفاء الثمن ، ولا ينفذ تصرفه فيه ، لكن يدخل في ضمانه .

فرع

دفع ظرفا إلى البائع وقال : اجعل المبيع فيه ، ففعل ، لا يحصل التسليم ، إذ لم يوجد من المشتري قبض ، والظرف غير مضمون على البائع ؛ لأنه استعمله في ملك المشتري بإذنه . وفي مثله في السلم ، يكون الظرف مضمونا على المسلم إليه ؛ لأنه استعمله في ملك نفسه . ولو قال للبائع : أعرني ظرفك ، واجعل المبيع فيه ، ففعل ، لا يصير المشتري قابضا .

النوع الثاني : ما يعتبر فيه تقدير ، بأن اشترى ثوبا أو أرضا مذارعة ، أو متاعا موازنة ، أو صبرة مكايلة ، أو معدودا بالعدد ، فلا يكفي للقبض ما سبق في [ ص: 520 ] النوع الأول ، بل لا بد مع ذلك من الذرع ، أو الوزن ، أو الكيل ، أو العد . وكذا لو أسلم في آصع طعام ، أو أرطال منه ، يشترط في قبضه الكيل والوزن . فلو قبض جزافا ما اشتراه مكايلة ، دخل المقبوض في ضمانه . وأما تصرفه فيه بالبيع ونحوه ، فإن باع الجميع ، لم يصح ؛ لأنه قد يزيد على المستحق . فإن باع ما يتيقن أنه له ، لم يصح أيضا على الصحيح الذي قاله الجمهور . وقبض ما اشتراه كيلا بالوزن ، أو وزنا بالكيل ، كقبضه جزافا .

ولو قال البائع : خذه ، فإنه كذا ، فأخذه مصدقا له ، فالقبض فاسد أيضا حتى يقع اكتيال صحيح . فإن زاد ، رد الزيادة . وأن نقص أخذ التمام . فلو تلف المقبوض ، فزعم الدافع أنه [ كان ] قدر حقه أو أكثر ، وزعم القابض أنه كان دون حقه أو قدره ، فالقول قول القابض . فلو أقر بجريان الكيل ، لم يسمع منه خلافه . وللمبيع مكايلة صور . منها : قوله : بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم . ومنها : بعتكها على أنها عشرة آصع . ومنها : بعتك عشرة آصع منها ، وهما يعلمان صيعانها ، أو لا يعلمان إذا جوزنا ذلك .

فرع

ليس على البائع الرضا بكيل المشتري ، ولا على المشتري الرضا بكيل البائع ، بل يتفقان على كيال ، وإن لم يتراضيا ، نصب الحاكم أمينا يتولاه ، قاله في " الحاوي " .

[ ص: 521 ] فرع .

مؤنة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على البائع ، كمؤنة إحضار المبيع الغائب ، ومؤنة وزن الثمن على المشتري ، لتوقف التسليم عليه . ومؤنة نقد الثمن هل على البائع ، أو المشتري ؟ وجهان .

قلت : ينبغي أن يكون الأصح أنها على البائع . والله أعلم .

فرع

لو كان لزيد على عمرو طعام سلما ، ولآخر مثله على زيد ، فأراد زيد أداء ما عليه مما له على عمرو ، فقال لغريمه : اذهب إلى عمرو واقبض لنفسك ما لي عليه ، فقبضه ، فهو فاسد ، وكذا لو قال : احضر معي لأكتاله منه لك ، ففعل . وإذا فسد القبض ، فالمقبوض مضمون على القابض . وهل تبرأ ذمة عمرو من حق زيد ؟ وجهان .

أصحهما : نعم . فإن قلنا : لا تبرأ ، فعلى القابض رد المقبوض إلى عمرو . ولو قال زيد : اذهب فاقبضه لي ، ثم اقبضه مني لنفسك بذلك الكيل ، أو قال : احضر معي لأقبضه لنفسي ، ثم تأخذه بذلك الكيل ، ففعل ، فقبضه لزيد في الصورة الأولى ، وقبض زيد لنفسه في الثانية ، صحيحان ، وتبرأ ذمة عمرو من حق زيد ، والقبض الآخر فاسد ، والمقبوض مضمون عليه . وفي وجه : يصح قبضه لنفسه في الصورة الأولى . ولو اكتال زيد وقبضه لنفسه ، ثم كاله على مشتري وأقبضه ، فقد جرى الصاعان وصح القبضان . فلو زاد حين كاله ثانيا أو نقص ، فالزيادة لزيد ، والنقص عليه إن كان قدرا يقع بين الكيلين . فإن كان أكثر ، علمنا أن الكيل الأول غلط ، فيرد زيد الزيادة ، ويرجع بالنقصان . [ ص: 522 ] ولو أن زيدا لما اكتاله لنفسه لم يخرجه من المكيال ، وسلمه كذلك إلى مشتريه ، فوجهان . أحدهما : لا يصح القبض الثاني حتى يخرجه ويبتدئ كيلا . وأصحهما عند الأكثرين : أن استدامته في المكيال ، كابتداء الكيل . وهذه الصورة كما تجري في ديني السلم تجري فيما لو كان أحدهما مستحقا بالسلم ، والآخر بقرض أو إتلاف .

فرع

للمشتري أن يوكل في القبض ، وللبائع أن يوكل في الإقباض ، ويشترط فيه أمران .

أحدهما : أن لا يوكل المشتري من يده يد البائع ، كعبده ، ومستولدته ، ولا بأس بتوكيل أبيه وابنه ومكاتبه . وفي توكيله عبده المأذون له ، وجهان .

أصحهما : لا يجوز . ولو قال للبائع : وكل من يقبض لي منك ، ففعل ، جاز ، ويكون وكيلا للمشتري . وكذا لو وكل البائع بأن يأمر من يشتري منه للموكل .

الأمر الثاني : أن لا يكون القابض والمقبض واحدا ، فلا يجوز أن يوكل البائع رجلا بالإقباض ، ويوكله المشتري بالقبض . كما لا يجوز أن يوكله هذا بالبيع وذاك بالشراء . ولو كان عليه طعام أو غيره من سلم أو غيره ، فدفع إلى المستحق دراهم ، وقال : اشتر بها مثل ما تستحقه لي ، واقبضه لي ، ثم اقبضه لنفسك ، ففعل ، صح الشراء والقبض للموكل ، ولا يصح قبضه لنفسه ، لاتحاد القابض والمقبض ، ولامتناع كونه وكيلا لغيره في حق نفسه .

وفي وجه ضعيف : يصح قبضه لنفسه ، وإنما يمتنع قبضه من نفسه لغيره . ولو قال : اشتر بهذه الدراهم لي ، واقبضه لنفسك ، ففعل ، صح الشراء ، ولم يصح قبضه لنفسه ، ويكون [ ص: 523 ] المقبوض مضمونا عليه . وهل تبرأ ذمة الدافع من حق الموكل ؟ فيه الوجهان السابقان . ولو قال : اشتر لنفسك ، فالتوكيل فاسد ، وتكون الدراهم أمانة في يده ؛ لأنه لم يقبضها ليملكها . فإن اشترى في الذمة ، وقع عنه وأدى الثمن من ماله . وإن اشترى بعينها ، فهو باطل على الصحيح . ولو قال لمستحق الحنطة : اكتل حقك من الصبرة ، لم يصح على الأصح ; لأن الكيل أحد ركني القبض ، وقد صار نائبا فيه من جهة البائع ، متأصلا لنفسه .

فرع

يستثنى عن الشرط الثاني ، ما إذا اشترى الأب لابنه الصغير من مال نفسه ، أو لنفسه من مال الصغير ، فإنه يتولى طرفي القبض ، كما يتولى طرفي البيع . وفي احتياجه إلى النقل في المنقول ، وجهان .

أصحهما : يحتاج ، كما يحتاج إلى الكيل إذا باع كيلا .

فرع

يستثنى عن صورة القبض المذكور ، إتلاف المشتري المبيع ، فإنه قبض كما سبق .

قلت : ومما يستثنى أيضا ، إذا كان المبيع خفيفا يتناول باليد ، فقبضه بالتناول واحتواء اليد عليه ، كذا قاله المحاملي وصاحب " التنبيه " وغيرهم ؛ لأنه يعد قبضا . والله أعلم .

[ ص: 524 ] فرع

قبض الجزء الشائع ، إنما يحصل بتسليم الجميع ، ويكون ما عدا المبيع أمانة في يده ، ولو طلب القسمة قبل القبض ، قال في " التتمة " : يجاب إليها ، لأنا إن قلنا : القسمة إفراز ، فظاهر . وإن قلنا : بيع ، فالرضا غير معتبر فيه ، فإن الشريك يجبر عليه . وإذا لم يعتبر الرضا ، جاز أن لا يعتبر القبض كالشفعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية