صفحة جزء
فصل

المرتهن يستحق بيع المرهون عند الحاجة ، ويتقدم بثمنه على سائر الغرماء ، وإنما يبيعه أو وكيله بإذن المرتهن ، فلو لم يأذن المرتهن ، وأراد الراهن بيعه ، قال له القاضي : ائذن في بيعه وخذ حقك من ثمنه ، أو أبرئه . وإن طلب المرتهن بيعه ، وأبى الراهن ، ولم يقض الدين ، أجبره القاضي على قضائه ، أو البيع ، إما بنفسه ، أو وكيله ، فإن أصر ، باعه الحاكم . ولو كان الراهن غائبا ، أثبت الحال عند الحاكم ليبيعه . فإن لم يكن له بينة ، أو لم يكن في البلد حاكم ، فله بيعه بنفسه كمن ظفر بغير جنس حقه من مال المديون وهو جاحد ولا بينة .

فرع

لو أذن الراهن للمرتهن في بيعه بنفسه ، فباع في غيبة الراهن ، فوجهان . أحدهما : يصح البيع كما لو أذن له في بيع غيره . وأصحهما : لا ؛ لأنه يبيعه لغرض نفسه ، فيتهم في الاستعجال وترك النظر . وإن باعه بحضوره ، صح على الصحيح ، وهو ظاهر النص لعدم التهمة . وقيل : لا يصح ؛ لأنه توكيل فيما يتعلق بحقه ، فعلى هذا ، لا يصح توكيله ببيعه أصلا ، ويتفرع عليه ، أنه لو شرط ذلك في ابتداء الرهن ، فإن كان الرهن مشروطا في بيع ، فالبيع باطل . وإن كان رهن تبرع ، فعلى القولين في الشرط الفاسد النافع للمرتهن أنه هل يبطل الرهن ؟ ولو قال للمرتهن : بع المرهون ، واستوف الثمن لي ، ثم استوفه لنفسك ، صح البيع ، والاستيفاء للراهن ، ولا يحصل الاستيفاء لنفسه بمجرد إدامة اليد والإمساك ، فلا بد من وزن جديد ، أو كيل جديد ، كما هو شأن القبض في المقدرات . ثم إذا استوفاه لنفسه بعد ذلك [ ص: 89 ] بكيل أو وزن ، ففي صحته وجهان ذكرناهما في نظائرهما في البيع ، لاتحاد القابض والمقبض . فإن صححنا ، برئت ذمة الراهن من الدين ، والمستوفي من ضمانه . وإن أبطلنا وهو الأصح لم يبرأ الراهن ، ويدخل المستوفي في ضمانه ; لأن القبض الفاسد كالصحيح في اقتضاء الضمان .

قلت : دخوله في ضمانه ، يكون بعد قبضه لنفسه ، فأما قبله ، فهو في يده أمانة بلا خلاف . وكذا لو نوى إمساكه لنفسه من غير إحداث فعل ، فالأمانة مستمرة ، صرح به الإمام والغزالي في البسيط وغيرهما . ولو قبضه لنفسه بفعل من غير وكيل ولا وزن ، دخل في ضمانه ؛ لأنه قبض فاسد ، فله في الضمان حكم الصحيح . والله أعلم .

ولو كانت الصيغة : ثم أمسكه لنفسك ، فلا بد من إحداث فعل على الأصح . وعلى الثاني : يكفي مجرد الإمساك . ولو قال : بعه لي واستوف الثمن لنفسك ، صح البيع ، ولم يصح استيفاء الثمن ؛ لأنه ما لم يصح القبض للراهن ، لا يتصور القبض لنفسه ، وهنا بمجرد قبضه يصير مضمونا عليه . ولو قال : بعه لنفسك ، فقولان . أظهرهما : أن الإذن باطل ، ولا يتمكن من البيع ؛ لأنه لا يتصور أن يبيع الإنسان مال غيره لنفسه .

والثاني : يصح اكتفاء بقوله : بعه ، وإلغاء للباقي ، ولأن السابق أن الفهم منه ، الأمر بالبيع لغرضه بالتوصل إلى دينه . ولو أطلق وقال : بعه ، ولم يقل : لي ، ولا لنفسك ، فوجهان . أصحهما : صحة البيع ، كما لو قال لأجنبي : بعه . والثاني : المنع لعلتين . إحداهما : أن البيع مستحق للمرتهن ، فكأنه قال : بعه لنفسك . والثانية : التهمة كما سبق . وعلى العلتين ، لو كان الثمن مؤجلا وقال : بعه ، صح ، لانتفائهما . وإن قال : بعه واستوف حقك من ثمنه ، جاءت التهمة . وإن قدر له الثمن لم يصح البيع على العلة الأولى ، ويصح على الثانية ، وكذا لو كان الراهن حاضرا عند البيع .

[ ص: 90 ] فرع

إذن الوارث لغرماء الميت في بيع التركة ، كإذن الراهن للمرتهن ، وكذا إذن السيد للمجني عليه في بيع الجاني .

فرع

إذا وضعا الرهن عند عدل ، وشرطا أن يبيعه عند المحل ، جاز ، وهل يشترط تجديد إذن الراهن ؟ وجهان . أصحهما : لا ؛ لأن الأصل بقاؤه . وأما المرتهن ، فقال العراقيون : يشترط مراجعته قطعا ؛ لأن البيع لإيصاله حقه إذا طالب ، فليستأذن ، فربما أمهل ، وربما أبرأ . وعكسه الإمام فقال : لا خلاف أنه لا يراجع ; لأن غرضه توفية الحق ، بخلاف الراهن ، فإنه قد يبقي العين لنفسه .

فرع

لو عزل الراهن العدل قبل البيع ، انعزل . ولو عزله المرتهن ، فوجهان . أصحهما : لا ينعزل ; لأنه وكيل الراهن ، فإنه المالك . والثاني : ينعزل ، وهو ظاهر النص ، كما لو عزله الراهن ; لأنه يتصرف لهما ، ولا خلاف أنه لو منعه من البيع لم يبع ، وكذا لو مات أحدهما . وإذا قلنا : لا ينعزل بعزل المرتهن ، فجدد له إذنا ، جاز البيع ، ولم يشترط تجديد توكيل الراهن . قال في " الوسيط " ومساق هذا ، أنه لو عزله الراهن ، ثم عاد فوكله ، اشترط إذن جديد من المرتهن ، ويلزم عليه أن يقال : لا يعتد بإذن المرتهن قبل توكيل الراهن ، ولا بإذن المرأة للوكيل قبل توكيل الولي إياه ، والكل محتمل .

[ ص: 91 ] فرع

إذا باع العدل وأخذ الثمن ، فهو أمين ، والثمن من ضمان الراهن إلى أن يتسلمه المرتهن . فلو تلف في يد العدل ، ثم خرج الرهن مستحقا ، فالمشتري بالخيار بين أن يرجع بالثمن على العدل أو الراهن ، والقرار على الراهن . ولو مات الراهن ، فأمر الحاكم العدل أو غيره ببيعه فباعه ، وتلف الثمن ثم خرج مستحقا ، رجع المشتري في مال الرهن ، ولا يكون العدل طريقا في الضمان على الأصح ; لأنه نائب الحاكم ، والحاكم لا يضمن . والثاني : يكون كالوكيل والوصي . وإذا ادعى العدل تلف الثمن في يده ، قبل قوله مع يمينه . وإن ادعى تسليمه إلى المرتهن فالقول قول المرتهن مع يمينه . فإذا حلف ، أخذ حقه من الراهن ، ورجع الراهن على العدل ، وإن كان قد أذن له في التسليم . ولو صدقه الراهن في التسليم ، فإن كان أمره بالإشهاد ، ضمن العدل بلا خلاف ، لتقصيره . وكذا إن لم يأمره على الأصح ، لتفريطه . فلو قال : أشهدت ومات شهودي ، وصدقه الراهن ، فلا ضمان . وإن كذبه ، فوجهان سنذكرهما مع نظائرهما في باب الضمان إن شاء الله تعالى .

فرع

لو باع العدل بدون ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به ، أو بثمن مؤجل ، أو بغير نقد البلد لم يصح . وقيل : بالمؤجل ، وهو غلط . ولو سلم المال إلى المشتري ، صار ضامنا . فإن كان المبيع باقيا ، استرد ، وجاز للعدل بيعه بالإذن السابق وإن صار مضمونا عليه . وإذا باعه وأخذ ثمنه لم يكن الثمن مضمونا عليه ; لأنه لم يتعد فيه . وإن كان تالفا ، فإن باع بغير نقد البلد ، أو بمؤجل ، فالراهن بالخيار في التغريم [ ص: 92 ] من شاء من العدل والمشتري كمال قيمته . وكذا إن باع بدون ثمن المثل على الأظهر . وعلى الثاني : إن غرم العدل ، حط النقص الذي كان يحتمل في الابتداء للغبن المعتاد . مثاله ، ثمن مثله عشرة ، ويتغابن فيه بدرهم ، فباعه بثمانية ، نغرمه تسعة ، ونأخذ الدرهم الباقي من المشتري ، كذا نقلوه . وغالب الظن طرد هذا الخلاف في البيع بغير نقد البلد ، وفي المؤجل ، وإنما اتفق النص على القولين في الغبن ; لأنه يخالف الأمرين الآخرين . ويدل عليه أن صاحب التهذيب وآخرين ، جعلوا كيفية تغريم الوكيل إذا باع على صفة من هذه الصفات ، وسلم المبيع على هذا الخلاف ، وسووا بين الصور الثلاث . ومعلوم أنه لا فرق بين العدل في الرهن وسائر الوكلاء . وعلى كل حال ، فالقرار على المشتري ، لحصول الهلاك عنده .

فرع

لو قال أحد المتراهنين : بعه بالدراهم ، وقال الآخر : بالدنانير لم يبع بواحد منهما ، فيرفعان الأمر إلى القاضي ليبيع بنقد البلد ، ثم إن كان الحق من نقد البلد ، وإلا صرف نقد البلد إليه . فلو رأى الحاكم بيعه بجنس حق المرتهن ، جاز .

فرع

لو باع بثمن المثل ، فزاد راغب قبل التفرق ، فليفسخ البيع ، وليبعه له . فإن لم يفعل ، فوجهان . أحدهما : لا ينفسخ البيع ; لأن الزيادة غير موثوق بها ، وأصحهما الانفساخ ; لأن المجلس كحال العقد . فعلى هذا ، لو بدا للراغب قبل التمكن من بيعه ، فالبيع الأول بحاله ، وإن كان بعده ، بطل ، فلا بد من بيع جديد . وفي وجه : إذا بدا له ، بان أن البيع بحاله ، وهو ضعيف . ولو لم يفسخ العدل ، بل باع الراغب ، [ ص: 93 ] ففي كونه فسخا لذلك البيع ، ثم في صحته في نفسه ، خلاف سبق في البيع ، وأشار الإمام إلى أن الوكيل لو باع ثم فسخ البيع ، هل يتمكن من البيع مرة أخرى ، فيه خلاف . والأمر بالبيع من الراغب هنا ، تفريع على أنه يتمكن . أو مفروض فيمن صرح له في الإذن بذلك . وأكثر هذه المسائل ، تطرد في جميع الوكالات .

قلت : قوله فزاد راغب قبل التفرق ، فيه نقص ، وكان ينبغي أن يقول : قبل انقضاء الخيار ، ليعم خياري المجلس والشرط ، فإن حكمهما في هذا سواء . صرح به صاحب " الشامل " وغيره . قال أصحابنا : ولو زاد الراغب بعد انقضاء الخيار ، لزم البيع ، ولا أثر للزيادة ، لكن يستحب للعدل أن يستقيل المشتري ليبيعه بالزيادة للراغب ، أو لهذا المشتري إن شاء . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية