صفحة جزء
القسم الثاني : الطريق الذي لا ينفذ ، كالسكة المسدودة الأسفل ، والكلام فيها في ثلاثة أمور :

الأول : إشراع الجناح ، فلا يجوز لغير أهل السكة بلا خلاف ، ولا لهم [ ص: 207 ] على الأصح الذي قاله الأكثرون إلا برضاهم ، سواء تضرروا ، أم لا . والثاني وهو قول الشيخ أبي حامد ومن تابعه : يجوز إذا لم يضر الباقين ، فإن أضر ورضي أهل السكة جاز . ولو صالحوه على شيء ، لم يصح بلا خلاف ؛ لأن الهواء تابع ، فلا يفرد بالمال صلحا ، كما لا يفرد به بيعا . وهكذا الحكم في صلح صاحب الدار عن الجناح المشرع إليها ، ونعني بأهل السكة كل من له باب نافذ إليها دون من يلاصق جدار دار السكة من غير نفوذ باب . ثم هل الاشتراك في جميعها لجميعهم ، أم شركة كل واحد تختص بما بين رأس السكة وباب داره ؟ وجهان . أصحهما : الاختصاص ؛ لأن ذلك هو محل تردده ، وما عداه ، فهو فيه كغير أهل السكة . وتظهر فائدة الخلاف على قول الأكثرين في منع إشراع الجناح إلا برضاهم . فإن شركنا الكل في الكل ، جاز لكل واحد من أهل السكة المنع . وإن خصصنا ، فإنما يجوز المنع لمن موضع الجناح بين بابه ورأس الدرب . وتظهر فائدته على قول الشيخ أبي حامد ، في أن مستحق المنع إذا أضر الجناح : من هو ؟ لكنهم لم يذكروه . قول الرافعي : لم يذكروه ، من أعجب العجب ، فقد ذكره صاحب " التهذيب " ، مع أن معظم نقل الرافعي منه ومن النهاية . - والله أعلم - .

ولو اجتمع المستحقون فسدوا رأس السكة ، لم يمنعوا منه ، كذا قاله الجمهور . وقال أبو الحسن العبادي : يحتمل أن يمنعوا ؛ لأن أهل الشارع يفزعون إليه إذا عرضت زحمة . ولو امتنع بعضهم ، لم يكن للباقين السد قطعا . ولو سدوا باتفاقهم ، لم يستقل بعضهم بالفتح . ولو اتفقوا على قسمة صحن السكة بينهم ، جاز . ولو أراد أهل رأس السكة قسمة رأسها بينهم ، منعوا لحق من يليهم . ولو أراد الأسفل قسمته فوجهان ، بناء على الاشتراك فيه ، ثم ما ذكرناه من سد الباب وقسمة الصحن ، مفروض فيما لو لم يكن في السكة مسجد . فإن كان فيها مسجد عتيق ، أو جديد ، [ ص: 208 ] منعوا من السد والقسمة ؛ لأن المسلمين كلهم يستحقون الاستطراق إليه ، ذكره ابن كج . وعلى قياسه ، لا يجوز الإشراع عند الإضرار وإن رضي أهل السكة ، لحق سائر المسلمين .

الأمر الثاني : فتح الباب ، فليس لمن لا باب له في السكة إحداث باب إلا برضى أهلها كلهم . فلو قال : أفتح إليها بابا للاستضاءة دون الاستطراق ، أو أفتحه وأسمره ، فوجهان . أصحهما : عند أبي القاسم الكرخي : يمنع .

قلت : قل من بين الأصح من هذين الوجهين ، ولهذا ، اقتصر الرافعي على نسبة التصحيح إلى الكرخي . وممن صححه صاحب " البيان " والرافعي في " المحرر " وخالفهم الجرجاني ، والشاشي ، فصححا المنع ، وهو أفقه . - والله أعلم - .

ولو كان له باب في السكة ، وأراد أن يفتح غيره ، فإن كان ما يفتحه أبعد من رأس السكة ، فلمن الباب المفتوح بين داره ورأس السكة منعه ، وفيمن داره بين الباب ورأس السكة وجهان ، بناء على كيفية الشركة كما سبق في الجناح . وإن كان ما يفتحه أقرب إلى رأس السكة ، فإن سد الأول جاز ، وإلا فكما إذا كان أبعد ؛ لأن الباب الثاني إذا انضم إلى الأول أورث زيادة زحمة الناس ووقوف الدواب ، فيتضررون به . وحكى في النهاية طريقة جازمة ، بأن لا منع لمن يقع المفتوح بين داره ورأس السكة ؛ لأن الفاتح لا يمر عليهم . وهذا ينبغي أن يطرد فيما إذا كان المفتوح أبعد من رأس السكة .

قلت : جزم صاحب " الشامل " بأنه إذا فتح بابا آخر أقرب إلى رأس السكة ، ولم يسد الأول جاز ، ولا منع لأحد . وهذا وإن كان ظاهرا ، فما نقله الإمام أقوى . ولم يذكر الرافعي - فيما إذا كان المفتوح أبعد - حكم من بابه مقابل المفتوح ، [ ص: 209 ] لا فوقه ولا تحته . وقد ذكر الإمام ، أنه كمن هو أقرب إلى رأس السكة ، ففيه الوجهان . - والله أعلم - .

وتحويل الميزاب من موضع إلى موضع ، كفتح باب وسد باب .

فرع

لو كان له داران ، ينفذ باب إحداهما إلى الشارع ، والأخرى إلى سكة منسدة ، فأراد فتح باب من إحداهما إلى الأخرى ، لم يكن لأهل السكة منعه على الأصح . ولو كان باب كل واحدة في سكة غير نافذة ، ففتح من إحداها إلى الأخرى ، ففي ثبوت المنع لأهل السكتين ، الوجهان ، قاله الإمام . وموضع الوجهين ، ما إذا سد باب إحداهما ، وفتح الباب لغرض الاستطراق . أما إذا قصد اتساع ملكه ونحوه ، فلا منع قطعا .

قلت : هذه العبارة فاسدة ، فإنها توهم اختصاص الخلاف ، بما إذا سد باب إحداهما ، وذلك خطأ ، بل الصواب ، جريان الوجهين إذا بقي البابان نافذين ، وكل الأصحاب مصرحون به . قال أصحابنا : ولو أراد رفع الحائط بينهما وجعلهما دارا واحدة ، ويترك بابيهما على حالهما ، جاز قطعا . وممن نقل اتفاق الأصحاب على هذا ، القاضي أبو الطيب في تعليقه . فالصواب أن يقال : موضع الوجهين ، إذا لم يقصد اتساع ملكه . وأما قوله : كذا نقله الإمام ، فإن الوجهين مشهوران جدا . وقوله الأصح : الجواز ، تابع فيه صاحب " التهذيب " ، وخالفه أصحابنا العراقيون ، فنقلوا عن الجمهور ، المنع . بل نقل القاضي أبو الطيب اتفاق الأصحاب على المنع . قال : وعندي أنه يجوز . - والله أعلم - .

[ ص: 210 ] فرع

حيث منعنا فتح الباب إلى السكة المنسدة ، فصالحه أهل السكة بمال جاز ، بخلاف الجناح ؛ لأنه هناك بذل مال في مقابلة الهواء . قال في " التتمة " : ثم إن قدروا مدة ، فهو إجارة . وإن أطلقوا ، أو شرطوا التأبيد ، فهو بيع جزء شائع من السكة ، وتنزيل له منزلة أحدهم . كما لو صالح رجلا على مال ليجري في أرضه نهرا ، كان ذلك تمليكا للنهر . ولو صالحه بمال على فتح باب من داره إلى داره ، صح ، ويكون كالصلح عن إجراء الماء على سطحه ، ولا يملك شيئا من الدار والسطح ؛ لأن السكة لا تراد إلا للاستطراق ، فإثبات الاستطراق فيها يكون نقلا للملك .

وأما الدار والسطح ، فلا يقصد بهما الاستطراق وإجراء الماء .

قلت : قال أصحابنا : لو كانت داره في آخر السكة المنسدة ، فأراد نقل بابها إلى الوسط ، ويجعل ما بين الباب وأسفل السكة دهليزا ، فإن شركنا الجميع في جميع السكة ، كان للباقين منعه ، وإلا فلا - والله أعلم - .

الأمر الثالث : فتح المنافذ والكوات للاستضاءة ، ولا منع منه بحال ، لمصادفته الملك ، بل له إزالة رفع الجدار ، وجعل شباك مكانه .

فرع

قال الإمام : لو فتح من لا باب له في السكة المنسدة بابا برضى أهلها ، كان لأهلها الرجوع متى شاءوا ، ولا يلزمهم بالرجوع شيء ، بخلاف ما لو أعار الأرض للبناء والغراس ثم رجع ، فإنه لا يقلعه مجانا . وهذا لم أره لغيره . والقياس : أن لا فرق .

[ ص: 211 ] فرع

قال الروياني : إذا كان بين داريه طريق نافذ ، فحفر تحته سردابا من إحداهما إلى الأخرى ، وأحكمه بالأزج لم يمنع . قال : وبمثلها أجاب الأصحاب فيما إذا لم يكن نافذا ؛ لأن لكل أحد دخول هذا الزقاق ، كاستطراق الدرب النافذ . قال : وغلط من قال بخلافه ، وهذا اختيار منه لكونها في معنى الشارع ، والظاهر خلافه . واعتذر الإمام عن جواز دخولها بأنه من قبيل الإباحة المستفادة من قرائن الأحوال .

قلت : هذا الذي ذكره الروياني - فيما كان الطريق نافذا - صحيح . وكذا صرح به القاضي أبو الطيب وغيره .

وأما تجويزه ذلك - فيما إذا لم يكن الطريق نافذا - ونقله ذلك عن الأصحاب ، فضعيف ، ولا يوجد ذلك في كتب معظم الأصحاب ، ولعله وجده في كتاب أو كتابين ، فإني رأيت له مثل هذا كثيرا . وكيف كان ، فهذا الحكم ضعيف ، فإن الأصحاب مصرحون بأن الطريق في السكة المسدودة ملك لأصحاب السكة ، وأنهم لو أرادوا سدها وجعلها مساكن ، جاز ، ونقل الإمام اتفاق الأصحاب على هذا . وإذا ثبت أنها ملكهم ، فالقرار تابع للأرض كما يتبعها الهواء ، فكما لا يجوز إخراج الجناح فوق أرضهم بغير رضاهم ، كذا السرداب تحتها . - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية