صفحة جزء
فصل

في جناية العبد المغصوب والجناية عليه

أما جنايته ، فينظر إن جنى جناية توجب القصاص ، واقتص منه في يد الغاصب ، غرم الغاصب أقصى قيمة من الغصب إلى القصاص . وإن جنى بما يوجب قصاصا في الطرف ، واقتص منه في يده ، غرم بدله ، كما لو سقط بآفة سماوية . ولو اقتص منه [ ص: 35 ] بعد الوفاء إلى السيد ، يلزم الغاصب أيضا ، وكذا الحكم لو ارتد أو سرق في يد الغاصب ، ثم قتل أو قطع بعد الرد إلى المالك . ولو غصب مرتدا أو سارقا فقتل أو قطع في يد الغاصب ، فهل يضمنه الغاصب ؟ وجهان ، كمن اشترى مرتدا أو سارقا فقتل أو قطع في يده ، فمن ضمان من يكون القتل أو القطع ؟ أما إذا جنى المغصوب على نفس أو مال جناية توجب المال متعلقا برقبته ، فعلى الغاصب تخليصه بالفداء . وبماذا يفديه ؟ فيه طريقان . المذهب : أنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش وقيمة العبد .

وقال الإمام : فيه قولان . أحدهما : هذا . والثاني : بالأرش وإن زاد كالقولين فيما إذا أراد السيد فداء الجاني . وإذا ثبت أن الجاني والجناية مضمونان على الغاصب ، لم يخل ، إما أن يتلف الجاني في يد الغاصب ، وإما أن يرده . فإن تلف في يده ، فللمالك تغريمه أقصى القيم . فإذا أخذها ، فللمجني عليه أن يغرم الغاصب إن لم يكن غرمه ، وله أن يتعلق بالقيمة التي أخذها المالك ، لأن حقه كان متعلقا بالرقبة فيتعلق ببدلها كما إذا تلف المرهون كانت قيمته رهنا . وفي وجه : لا مطالبة للمجني عليه بما أخذه المالك . والصحيح : الأول . فإذا أخذ المجني عليه حقه في تلك القيمة ، رجع المالك بما أخذه على الغاصب . ولو كان العبد يساوي ألفا ، فرجع بانخفاض السعر إلى خمسمائة ، ثم جنى ومات عند الغاصب ، فغرمه المالك الألف ، لم يكن للمجني عليه إلا خمسمائة وإن كان أرش الجناية ألفا فأكثر ، لأنه ليس له إلا قدر قيمته يوم الجناية وإن رد العبد إلى المالك ، نظر ، إن رده بعدما غرم للمجني عليه ، فذاك ، وإن رد قبله فبيع في الجناية رجع المالك على الغاصب بما أخذ منه ، لأن الجناية حصلت حين كان مضمونا عليه ، بخلاف ما إذا جنى في يد المالك ثم غصبه رجل ورده ثم بيع في تلك الجناية ، فإنه لا يرجع المالك بشيء ، لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون عليه .

[ ص: 36 ] وفرع ابن الحداد وغيره على ذلك فقالوا : إذا جنى في يد المالك جناية تستغرق قيمته ، ثم غصب وجنى في يد الغاصب جناية مستغرقة . ثم رده المالك ، ثم بيع في الجنايتين وقسم الثمن بينهما نصفين ، يرجع المالك على الغاصب بنصف قيمة العبد . ولو كان الفرع بحاله ، وتلف العبد بعد الجنايتين في يد الغاصب ، فله طلب القيمة من الغاصب ، وللمجني عليهما أخذها ، فإذا أخذاها ، فللمالك الرجوع بنصفها على الغاصب ، لأنه أخذ منه نصفها بجناية في يد الغاصب ، فإذا رجع به ، فللمجني عليه الأول أخذه ، لأنه بدل ما تعلق به حقه قبل الجناية الثانية . وإذا أخذه لم يكن له الرجوع على الغاصب مرة أخرى ، لأنه مأخوذ بجناية غير مضمونة على الغاصب . هذا هو الصحيح في الصورتين .

وقيل : إذا رد العبد وبيع في الجناية ، فالنصف الأول يرجع به المالك ويسلم له ولا يؤخذ منه ، وإنما يطالب المجني عليه الأول الغاصب بنصف القيمة . وإذا تلف في يد الغاصب بعد الجنايتين ، لا يأخذ المالك شيئا ، ولكن المجني عليه الأول يطالب الغاصب بتمام القيمة والمجني عليه الثاني يطالبه بنصف القيمة . ولو جنى المغصوب في يد الغاصب أولا ، ثم رده إلى المالك فجنى في يده أخرى ، وكل واحدة منهما تستغرق القيمة ، فبيع فيهما وقسم الثمن بينهما ، فللمالك الرجوع على الغاصب بنصف القيمة للجناية التي هي مضمونة عليه .

قال الشيخ أبو علي : سمعت القفال مرة يقول : ليس لواحد من المجني عليهما أخذ هذا النصف من المال . أما الثاني ، فلأن الجناية عليه مسبوقة بجناية مستغرقة ، وحقه لم يثبت إلا في نصف القيمة وقد أخذه . وأما الأول ، فلأن حق السيد يثبت في القيمة بنفس الغصب ، وهو متقدم على حق المجني عليه ، فما لم يصر حقه إليه لا يرجع إلى غيره شيء . قال أبو علي : ليس هذا بشيء ، بل للمجني عليه الأول أخذه كما في الجناية السابقة ، ولا عبرة بثبوت حق السيد في القيمة ، فإن حقه وإن تقدم ، فحق المجني عليه مقدم كما في الرقبة . قال : وناظرت القفال فيه ، فرجع إلى قولي . وعلى هذا إذا [ ص: 37 ] أخذه المجني عليه الأول ، رجع به المالك على الغاصب مرة أخرى ، ويسلم له المأخوذ ثانيا ، لأن الأول أخذ تمام القيمة والثاني لم يتعلق حقه إلا بالنصف وقد أخذه . ولو جنى في يد الغاصب ثم في يد المالك كما صورناه ، ثم قتله الغاصب أو غصبه ثانيا فمات عنده ، أخذت القيمة منه وقسمت بين المجني عليهما ، ثم للمالك أن يأخذ منه نصف القيمة ، لأنه أخذ منه بسبب جناية مضمونة عليه . فإذا أخذه كان للمجني عليه الأول أن يأخذه منه ، ثم له أن يرجع به على الغاصب مرة أخرى ويسلم له المأخوذ في هذه المرة ، وقد غرم الغاصب والحالة هذه القيمة مرتين ، مرة بجناية العبد في يده ، ومرة بالقتل .

أما الجناية عليه ، فإن قتل ، نظر ، إن وجب القصاص بأن كان القاتل عبدا والقتل عمدا ، فللمالك القصاص . فإذا اقتص ، برئ الغاصب ، لأنه أخذ بدل حقه ، ولا نظر مع القصاص إلى تفاوت القيمة ، كما لا نظر في الأحرار إلى تفاوت الدية . وإن لم يجب القصاص . فإن كان الجاني حرا لزمه للجناية قيمته يوم القتل ، سواء قتله الغاصب أو أجنبي ، والمالك بالخيار ، بين أن يطالب بها الغاصب أو الجاني ، لكن القرار على الجاني .

ثم إن كانت قيمته قبل يوم القتل أكثر ، ونقصت في يد الغاصب ، لزمه ما نقص بحكم اليد . وإن كان الجاني عبدا ، فإن سلمه سيده فبيع في الجناية ، نظر ، إن كان الثمن مثل قيمة المغصوب أخذه ولا شيء له على الغاصب إلا إذا كانت قيمته قد نقصت عنده قبل القتل . وإن كان الثمن أقل ، أخذ الباقي من الغاصب . وإن اختار سيده فداه ، فإن قلنا : يفديه بالأرش ، أخذه ولا شيء له على الغاصب إلا على التقدير المذكور . وإن قلنا : يفدي بالأقل من الأرش والقيمة ، فإن كانت قيمة المغصوب أكثر من قيمة الجاني ، فالباقي على الغاصب ، وإن كانت أقل أو مثلها أخذها المالك ولا شيء له على الغاصب إلا على التقدير المذكور .

ولو اختار المالك تغريم الغاصب ابتداء فله ذلك ، ويأخذ منه جميع قيمة المغصوب ، ثم يرجع الغاصب على سيد الجاني بما غرم إلا ما لا يطالب به إلا الغاصب . هذا إذا كانت الجناية قتلا ، [ ص: 38 ] فأما الجراحات ، فإما أن يكون لها أرش مقدر في الحر ، وإما لا ، والواجب في الحالين ، ما ذكرناه من قبل . وإذا كان الواجب ما نقص من قيمته بالجناية ، كان المعتبر حال الاندمال ، فإن لم يكن حينئذ نقص لم يطالب بشيء . وإذا كان الواجب مقدرا من القيمة كالمقدر من الدية ، فهل يؤخذ في الحال ، أم يؤخذ في الاندمال ؟ قولان ، كما لو كانت الجناية على حر ، وسيأتي

[ ذلك ] في موضعه إن شاء الله تعالى .

وإذا كان الجاني غير الغاصب وغرمناه المقدر من القيمة ، وكان الناقص أكثر من ذلك القدر ، فعلى الغاصب ما زاد . وإن كان المقدر أكثر مما نقص من القيمة ، فهل يطالب الغاصب بالزيادة على ما نقص ؟ ذكرنا فيما إذا سقطت يده بآفة : أن الأصح : أنه لا يطالب . وهنا الأصح : أنه يطالب ، والقرار على الجاني . واختلفوا فيما لو قطعت يده قصاصا أو حدا ، لأنه يشبه السقوط بآفة من حيث أنه تلف لا بدل له ، ويشبه الجناية من حيث حصوله بالاختيار .

فرع

لو اجتمعت جناية المغصوب والجناية عليه ، بأن قتل إنسانا ، ثم قتله في يد الغاصب عبد رجل ، فللمغصوب منه أن يقتص ويسقط به الضمان عن الغاصب ، ويسقط حق ورثة من قتله المغصوب ، لأن العبد الجاني إذا هلك [ و ] لم يحصل له عوض ، يضيع حق المجني عليه ، لكن لو كان المغصوب قد نقص عند الغاصب بحدوث عيب بعدما جنى ، لم يبرأ الغاصب من أرش ذلك النقص ، ولولي من قتله التمسك به ، وإن حدث العيب قبل جنايته ، فاز المغصوب منه بالأرش . فلو لم يقتص المغصوب منه بل عفا على مال ، أو كانت الجناية موجبة للمال ، فحكم تغريمه وأخذه المال على ما سبق [ ص: 39 ] في الجناية عليه من غير جناية منه . ثم إذا أخذ المال كان لورثة من جنى عليه هذا العبد التعلق به ، لأنه بدل الجاني على مورثهم . فإذا أخذوه ، رجع به المغصوب منه على الغاصب مرة أخرى ، لأنه أخذ [ منه ] بسبب جناية مضمونة عليه ، ويسلم المأخوذ ثانيا كما سبق نظيره .

قلت : ومما يتعلق بالفصل ، لو وثب العبد المغصوب فقتل الغاصب ، وهرب إلى سيده ، فإن كانت الجناية عمدا ، قال الصيمري : إن عفا ورثة الغاصب عن القصاص والدية ، سقط الضمان عن الغاصب في المال . وإن قتلوه ، لزمهم قيمة العبد في التركة ، وكأنهم لم يسلموه ، وكذا لو طلبوا الدية من رقبته . وإن قتل المغصوب سيده وهو في يد الغاصب ، فالصحيح الذي قطع به الشيخ أبو حامد : أن لورثة المالك أن يقتصوا منه ، وإذا قتلوه استحقوا قيمته من الغاصب . وحكى في البيان وجها : أن جنايته تكون هدرا . ولو صال العبد المغصوب أو الجمل المغصوب على رجل فقتله المصول عليه للدفع ، فلا ضمان عليه ، ويجب ضمانه على الغاصب ، ولا يرجع على المصول عليه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية