صفحة جزء
ولا يحل للمسلمين الفرار من ضعفهم إلا متحرفين إلى القتال ، أو متحيزين إلى فئة وإن زاد الكفار ، فلهم الفرار إلا أن يغلب على ظنهم الظفر . وإن ألقي في مركبهم نار ، فعلوا ما يرون السلامة فيه ، وإن شكوا ، فعلوا ما شاءوا من المقام أو إلقاء نفوسهم في الماء ، وعنه : يلزمهم المقام .


( ولا يحل للمسلمين ) ولو ظنوا التلف ( الفرار ) لقوله تعالى : إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [ الأنفال : 15 ] ولأنه - صلى الله عليه وسلم - عد الفرار من الكبائر ، وشرطه أن لا يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين ، وهو المراد بقوله ( من ضعفهم ) لقوله تعالى : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين [ الأنفال : 66 ] قال ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة [ ص: 317 ] فما فر ، وفي " المنتخب " : لا يلزم ثبات واحد لاثنين ، وكلام الأكثر بخلافه .

ونقل الأثرم وأبو طالب إلا متحرفين إلى قتال أو متحيزين إلى فئة . لقوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله [ الأنفال : 16 ] ومعنى التحرف للقتال : أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن كمن كان في وجه الشمس والريح ، أو في مكان ينكشف فيه ، فينحرف واحدة ، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب .

قال : عمر يا سارية الجبل . فانحازوا إليه وانتصروا على عدوهم ، ومعنى التحيز إلى فئة : هو أن يصير إلى قوم من المسلمين ليكون معهم ، فيقوى بهم على العدو . وظاهره ولو بعدت المسافة ، كخراسان ، والحجاز ، لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني فئة لكم وكانوا بمكان بعيد منه ، وقال عمر : أنا فئة لكل مسلم ، وكان بالمدينة ، وجيوشه بالشام ، والعراق ، وخراسان رواهما سعيد .

( وإن زاد الكفار ) على مثليهم ( فلهم الفرار ) قال ابن عباس : لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين [ الأنفال : 65 ] . شق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ، ثم جاء التخفيف فقال : الآن خفف الله عنكم الآية [ الأنفال : 66 ] فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد رواه أبو داود . وظاهره أنه يجوز لهم الفرار من أدنى زيادة ، وهو أولى مع ظن التلف بتركه ، وأطلق ابن عقيل استحباب الثبات للزائد ، لما في ذلك من المصلحة ( إلا أن يغلب على ظنهم ) أي ظن المسلمين ( الظفر ) فيلزمهم المقام ، ولا يحل لهم الفرار لينالوا درجة الشهداء [ ص: 318 ] المقبلين على القتال محتسبين ، فيكونوا أفضل من المولين . وما ذكره المؤلف هو قول في المذهب ، والأشهر أن ذلك هو الأولى ، وليس بواجب ، صرح به في " المغني " و " الشرح " وحمل ابن المنجا كلامه هنا على الأولى ، جمعا بين نقله وموافقة الأصحاب ، وكأنه لم يقف على الخلاف فيه . وظاهره أنه إذا غلب على ظنهم الهلاك فالأولى الثبات والقتال . وعنه : لزوما ، قال أحمد : ما يعجبني أن يستأسر . وقال : فليقاتل أحب إلي إلا لأمر شديد . وقال عمار : من استأسر برئت منه الذمة ، فلهذا قال الآجري : يأثم ، ولأنه قول أحمد ، وإن استأسروا جاز . قاله في " البلغة " .

تنبيه : إذا نزل العدو ببلد فلأهله التحصن منهم ، وإن كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد وقوة ، ولا يكون توليا ، ولا فرارا ( وإن ألقي في مركبهم نار ) واشتعل بهم ( فعلوا ما يرون السلامة فيه ) لأن حفظ الروح واجب ، وغلبة الظن كاليقين في أكثر الأحكام ، فهنا كذلك ( وإن شكوا فعلوا ما شاءوا من المقام ، أو إلقاء نفوسهم في الماء ) هذا هو المذهب ، لأنهم ابتلوا بأمرين ، ولا مزية لأحدهما على الآخر ، وكظن السلامة في المقام ، والوقوع في الماء ظنا متساويا ؛ لكن قال أحمد : كيف يصنع ؛ قال الأوزاعي : هما مرتبتان فاختر أيسرهما .

( وعنه : يلزمهم المقام ) نصرهما القاضي وأصحابه ، لأنهم إذا ألقوا أنفسهم في الماء كان موتهم بفعلهم ، وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم ، وعنه : يحرم ، ذكرها ابن عقيل ، وصححها ، وصحح في " النهاية " الأولى ، قال : لأنهم ملجأون إلى الإلقاء ، فلا ينسب إليهم الفعل بوجه ، ولعل الله يخلصهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية