صفحة جزء
فصل ويجوز تبييت الكفار ، ورميهم بالمنجنيق ، وقطع المياه عنهم ، وهدم حصونهم ولا يجوز إحراق نحل ولا تغريقه ، ولا عقر دابة ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه . وفي إحراق شجرهم وزرعهم وقطعه روايتان ، إحداهما : يجوز إن لم يضر بالمسلمين ، والأخرى : لا يجوز إلا أن لا يقدر عليهم إلا به ، أو يكونوا يفعلونه بنا ، وكذلك رميهم بالنار ، وفتح الماء ليغرقهم . وإذا ظفر بهم لم يقتل صبيا ولا امرأة ولا راهبا ولا شيخا فانيا ولا زمنا ولا أعمى إلا أن يقاتلوا ؛ فإن تترسوا بهم جاز رميهم ، ويقصد المقاتلة . وإن تترسوا بالمسلمين ، لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين ؛ فيرميهم ويقصد الكفار . ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله حتى يأتي به الإمام إلا أن يمتنع من المسير معه ، ولا يمكنه إكراهه .


[ ص: 319 ] فصل : ويجوز تبييت الكفار لما روى الصعب بن جثامة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم ؛ فقال : هم منهم . متفق عليه . ومعنى تبييتهم : كبسهم ليلا وقتلهم ، وهم غارون . وظاهره ، ولو قتل من لا يجوز قتله إذا لم يقصده ( ورميهم بالمنجنيق ) نص عليه لأنه - صلى الله عليه وسلم - نصب المنجنيق على أهل الطائف . رواه الترمذي مرسلا ، ونصبه عمرو بن العاص على الإسكندرية ، ولأن الرمي به معتاد كالسهام . وظاهره مع الحاجة وعدمها . وفي " المغني " هو ظاهر كلام الإمام . ( وقطع المياه عنهم ) وكذا السابلة . ( وهدم حصونهم ) وفي " المحرر " و " الوجيز " و " الفروع " هدم عامرهم ، وهو أعم ؛ لأن القصد إضعافهم وإرهابهم ، ليجيبوا داعي الله .

وقيل : فيه روايتان . قال أحمد : لا يعجبني يلقى في نهرهم سم لعله يشرب منه مسلم ، ولا يجوز إحراق نحل بالمهملة ( ولا تغريقه ) في قول عامة العلماء لما روى مكحول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى أبا هريرة بأشياء . قال : إذا غزوت فلا تحرق نحلا ، ولا تغرقه ، وروى مالك أن أبا بكر قال ليزيد بن أبي سفيان نحوه ، ولأن قتله فساد ، فيدخل في عموم قوله تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض الآية [ البقرة : 205 ] ولأنه حيوان ذو روح فلا يجوز إهلاكه لغيظهم كنسائهم ، ومقتضاه أنه يجوز أخذ العسل ؛ لأنه مباح ، وفي أخذ كل شهده بحيث لا يترك للنحل شيء روايتان ( ولا عقر دابة ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه ) أما عقر دوابهم لغير الأكل ، فلا يخلو إما أن يكون في الحرب أو في غيرها ، فإن كان في الأول [ ص: 320 ] فلا خلاف في جوازه ؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم ، وهو المطلوب ، وإن كان الثاني ، لم يجز لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحيوان صبرا . واختار في " المغني " جواز ذلك . أو مما يستعين به على الكفار في القتال كالخيل ، وذكره في " المستوعب " بشرط عجز المسلمين عن سياقه وأخذه ؛ لأنه يحرم إيصاله إلى الكفار للبيع ، فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم ، وعكسه أشهر . وفي " البلغة " يجوز قتل ما قاتلوا عليه في تلك الحال ، وأما عقرها للأكل ، فإن لم يكن بد من ذلك ، فيباح بغير خلاف ؛ لأن الحاجة تبيح مال المعصوم ، فغيره أولى ، وإن لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك فإن كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج وسائر الطير ؛ فحكمه كالطعام في قول الجميع . وإن كان مما يحتاج إليه في القتال ، كالخيل ، لم يبح ذبحه للأكل في قول الجميع ، لكن قال المؤلف : أختار عقرها لغير الأكل بشرطه ، وإن كان غير ذلك كالبقر والغنم ، لم يبح في قول الجماعة . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد إباحته من غير حاجة كالطعام ، واستثنى في المغني من قول الخرقي : إذا أذن الإمام في ذلك ، وصرح به في " الشرح " .

فرع : إذا تعذر حمل متاع فترك ، ولم يشتر ، فللإمام أخذه لنفسه ، وإحراقه ، نص عليهما . وإلا حرم إذا جاز اغتنامه حرم إتلافه ، وإلا جاز إتلاف غير الحيوان ، وإذا قال الأمير عند العجز عن نقله : من أخذ شيئا فهو له ، أخذه ، وكذا إن لم يقل في أكثر الروايات ، ويجب إتلاف كتبهم المبدلة ، ذكره في " البلغة " .

[ ص: 321 ] ( وفي إحراق شجرهم وزرعهم وقطعه روايتان إحداهما : يجوز ) . قدمه في " المحرر " و " الفروع " وجزم به في " الوجيز " 0 وهو أظهر لقوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها الآية [ الحشر : 5 ] ولما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرق نخل بني النضير ، وقطع ، وهي البويرة فأنزل الله - تعالى - الآية ، وفيه يقول حسان بن ثابت :


وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير



متفق عليه . ( إن لم يضر بالمسلمين ) وكذا في " المحرر " و " الفروع " وزاد : ولا نفع . فدل على أن ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونه ينتفعون به ببقائه لعلوفهم أو يستظلون به أو يأكلون من ثمره ، لم يجز لما فيه من الإضرار بالمسلمين ، وهو منفي شرعا ( والأخرى لا يجوز ) لحديث أبي بكر وغيره ، ولأن فيه إتلافا محضا ، فلم يجز كعقر الحيوان ( إلا أن لا يقدر عليهم إلا به ) كالذي يقرب من حصونهم ، ويمنع من قتالهم ، ويستترون به من المسلمين ، وزاد في " المغني " و " الشرح " أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة الطريق ، أو يمكن من قتال ، أو سد شق ، أو ستارة منجنيق . ( أو يكونوا يفعلونه بنا ) فنفعله بهم ، قال أحمد : لأنهم يكافئون على فعلهم . وهذا مما لا خلاف فيه . ذكره في " المغني " و " الشرح " ( وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم ) أي فيه روايتان ، إحداهما : يجوز ؛ جزم به في " الوجيز " ؛ لأن القصد مكافأتهم ، وإقامة كلمة الحق ، فإذا كان ذلك وسيلة إليه جاز كالقتل ، لكنه إن قدر عليهم بغيره ، لم يجز تحريقهم بالنار بغير خلاف . وعند العجز : [ ص: 322 ] يجوز في قول أكثر العلماء ، وكذلك القول في فتح الثقوب لتغريقهم .

والثانية : المنع ؛ أما النار فلا يعذب بها إلا الله - تعالى - وأما الماء فلأن الإتلاف به يعم النساء ، والذرية مع أن عنه وجها ، لكن لو لم يقدر عليهم إلا به ، أو كانوا يفعلونه بنا ، جاز .

( وإذا ظفر بهم لم يقتل صبيا ) لم يبلغ بغير خلاف ، لما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء ، والصبيان . متفق عليه ، ولأنه يصير رقيقا بنفس السبي ؛ ففي قتله إتلاف المال فإن شك في بلوغه عول على شعر عانته . قاله في " البلغة " . ( ولا امرأة ) لما ذكرنا ، والخنثى كهي . ( ولا راهبا ) في صومعته . قال جماعة : ولا يخالط الناس لقول عمر : ستمرون على قوم في صوامع لهم ، احتبسوا أنفسهم فيها ، فدعوهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم . ( ولا شيخا فانيا ) فإنه روي عن ابن عباس في قوله : ( ولا تعتدوا ) : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير . وجوزه ابن المنذر لأمره - صلى الله عليه وسلم - به . قال ابن المنذر : لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ يستثنى بها عموم قوله فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] ولأنه كافر لا نفع فيه ، فيقتل كالشاب .

وجوابه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتله . رواه أبو داود ، ولأنه ليس من أهل القتال أشبه المرأة ، ويحمل ما روي عن قتل المقاتلة الذين فيهم قوة مع أنه عام ، وخبرنا خاص بالهرم فيقدم . ( ولا زمنا ولا أعمى ) كالشيخ الفاني لاشتراكهم في عدم النكاية . زاد في " المغني " و " الشرح " : وعبد وفلاح . وفي " الإرشاد " : وحبر ، لا رأي لهم ، فمن كان من هؤلاء ذا رأي ، وخصه في " الشرح " بالرجال ، وفيه [ ص: 323 ] شيء ، جاز ؛ لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين ، وهو شيخ لا قتال فيه لأجل استعانتهم برأيه ، فلم ينكر - صلى الله عليه وسلم - قتله ، ولأن الرأي من أعظم المعونة على الحرب ، وربما كان أبلغ في القتال . قال المتنبي :


الرأي قبل شجاعة الشجعان     هو أول ، وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة     بلغت من العلياء كل مكان

.

( إلا أن يقاتلوا ) فيجوز قتلهم بغير خلاف ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة ، وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على امرأة مقتولة يوم الخندق فقال : من قتل هذه ؛ فقال رجل : أنا ، نازعتني قائم سيفي ، فسكت . ولأنه لو لم يجز لأدى إلى تلف قاتله ، زاد في " الفروع " وغيره : أو يحرضوا عليه ، وذكر في " المغني " و " الشرح " أن المرأة إذا انكشفت للمسلمين ، وشتمتهم رميت قصدا . وظاهر نص الإمام والأصحاب خلافه . ويتوجه أن حكم غيرها ممن منعنا قتله كهي .

( فإن تترسوا بهم ) أي : بمن لا يجوز قتله ( جاز رميهم ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - رماهم بالمنجنيق ، وفيهم النساء والصبيان ، ولأن كف المسلمين عنهم حينئذ يفضي إلى تعطيل الجهاد ، وسواء كانت الحرب قائمة أو لا ( ويقصد المقاتلة ) لأنه هو المقصود .

( وإن تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم ) كأن تكون الحرب غير قائمة ، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه ، أو للأمن من شرهم ( إلا أن يخاف على المسلمين ) مثل كون الحرب قائمة أو لم يقدر عليهم إلا بالرمي ( فيرميهم ) ، نص عليه ، للضرورة .

[ ص: 324 ] ( ويقصد الكفار ) بالرمي لأنهم هم المقصود بالذات ، فلو لم يخف على المسلمين ، لكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي فظاهر كلامه لا يجوز رميهم ، وقاله الأوزاعي لقوله تعالى : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية [ الفتح : 25 ] قال الليث : ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق ، وجوزه القاضي حال قيام الحرب ؛ لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد ، فعلى هذا لو قتل مسلما فعليه الكفارة ، وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان . وفي " عيون المسائل " : يجب الرمي ويكفر ولا دية .

فرع : إذا نازل المسلمون العدو ، فقالوا : ارحلوا عنا وإلا قتلنا أسراكم ، قال أحمد : فيرحلوا عنهم . ( ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله ) على الأصح ( حتى يأتي به الإمام ) فيرى فيه رأيه ؛ لأن الخيرة في أمر الأسير إليه .

والثانية : يجوز كما لو قتله ( إلا أن يمتنع من المسير معه ) فله إكراهه بالضرب وغيره ، فإن لم يمكنه ، وهو المراد بقوله ( ولا يمكنه إكراهه ) فإنه حينئذ له قتله ، فإن امتنع من الانقياد معه لجرح أو مرض ، فله قتله . وعن الوقف في المريض فيه وجهان : أصحهما الجواز ؛ لأن تركه حيا ضرر على المسلمين ، ونقل أبو طالب : لا يخليه ولا يقتله . ويحرم قتل أسير غيره ، ولا شيء عليه ، نص عليه ، واختار الآجري جواز قتله لمصلحة كقتل بلال أمية بن خلف أسير عبد الرحمن بن عوف وأعانه عليه الأنصار . فعلى المذهب لو خالف ، وفعل ، فإن كان المقتول رجلا ، فلا شيء عليه ، فإن كان امرأة ، أو صبيا ، عاقبه الأمير ، وغرم ثمنه غنيمة ؛ لأنه صار رقيقا بنفس السبي .

التالي السابق


الخدمات العلمية