صفحة جزء
فإن دعا كافر إلى البراز ، استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الأمير ، فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه ، فله شرطه ، فإن انهزم المسلم ، أو أثخن بالجراح ، جاز الدفع عنه وإن قتله المسلم ، فله سلبه ، وكل من قتل قتيلا فله سلبه غير مخموس إذا قتله حال الحرب منهمكا على القتال غير مثخن وغرر بنفسه في قتله . وعنه : لا يستحق إلا من شرط له ، فإن قطع أربعته وقتله آخر ، فسلبه للقاطع ، وإن قتله اثنان ، فسلبه غنيمة . وقال القاضي : هو لهما ، وإن أسره فقتله الإمام ؛ فسلبه غنيمة ، وقال القاضي : هو لمن أسره ، وإن قطع يده ورجله وقتله آخر فسلبه غنيمة . وقيل : هو للقاتل . والسلب ما كان عليه من ثياب وحلي وسلاح والدابة بآلتها . وعنه : أن الدابة ليست من السلب . ونفقته وخيمته ورحله غنيمة .


( فإن دعا كافر ) وفي " البلغة " مطلقا ( إلى البراز ) بكسر الباء : عبارة عن مخاصمة العدو ، وبفتحها : اسم للفضاء الواسع . ( استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الأمير ) لمبارزة الصحابة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده .

قال قيس بن عبادة : سمعت أبا ذر يقسم قسما في قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم [ الحج : 19 ] أنها نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة . متفق عليه . قال علي : نزلت هذه الآية في مبارزتنا يوم بدر . رواه البخاري ، وكان ذلك بإذنه ، صلى الله عليه وسلم . وبارز البراء بن مالك مرزبان الدارة فقتله ، وأخذ سلبه ، فبلغ ثلاثين ألفا ، ولأن في الإجابة إليها إظهارا لقوة المسلمين ، وجلدهم على الحرب . وظاهره إذا لم يثق من نفسه فيكون لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا ، ولو طلبها الشجاع ابتداء ، فاحتمالان ، في " الفصول " ( فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه ) أو كان هو العادة ( فله شرطه ) لقوله - صلى الله عليه وسلم - المسلمون على شروطهم والعادة بمنزلة الشرط . ويجوز رميه وقتله قبل المبارزة ؛ لأنه كافر لا عهد له ، ولا أمان فأبيح قتله كغيره ، إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج يطلب المبارزة لا يتعرض له ، فيعمل بها ( ؛ فإن انهزم المسلم تاركا ) للقتال أو ( أثخن بالجراح ، جاز ) لكل مسلم ( الدفع عنه ) ويقتل الكافر ؛ لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال ، فقد انقضى قتاله ، والأمان زال بزوال القتال ؛ لأن حمزة ، وعليا أعانا عبيدة في قتل شيبة حين أثخن [ ص: 345 ] عبيدة ، وإن أعان الكفار صاحبهم ، فعلى المسلمين أن يعينوا صاحبهم ، ويقاتلوا من أعان عليه ، إلا المبارزة ؛ لأنه ليس بسبب من جهته .

فائدة : كره أحمد التلثم في القتال ، وعلى أنفه ، وله لبس علامة كريش نعام ، . وعنه : يستحب للشجاع ، ويكره لغيره . جزم به في " الفصول " .

( وإن قتله المسلم ، فله سلبه ) بغير خلاف نعلمه ؛ لأن القاتل له سلب المقتول ( وكل من قتل قتيلا فله سلبه ) لما روى أنس ، وسمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل قتيلا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا ، وأخذ أسلابهم . رواه أبو داود . وظاهره أن السلب لكل قاتل ، سواء كان يستحق سهما أو رضخا ، كالصبي والمرأة والمشرك ، وهو وجه . وخصه في " الوجيز " بالقاتل المسلم ، والثاني : لا ؛ لأن السهم آكد منه للإجماع عليه ، وهو لا يستحقه فالسلب أولى ، وفي " الإرشاد " أن من بارز بغير إذن الإمام فلا يستحق السلب . وقطع في " المغني " و " الشرح " بأن العبد إذا بارز بغير إذن السيد لا يستحق السلب ؛ لأنه عاص ، وكذا كل عاص ، كمن دخل بغير إذن الأمير ، وعنه فيمن دخل بغير إذنه أنه يؤخذ منه الخمس ، وباقيه له ، كالغنيمة ، ويخرج في العبد مثله ، وفيه شيء ، وأنه يفرق بينهما بأن تعلق الحق بالغنيمة آكد ، للإجماع بخلاف السلب فإن بعضهم جعله كالنفل ، لا يستحق إلا بالشرط ، أما لو كان القاتل ممن لا حق له في الغنيمة كالمرجف ، فلا حق له في السلب ؛ لأنه ليس من أهل الجهاد . ( غير مخموس ) لما روى عوف بن مالك ، وخالد بن الوليد ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في السلب للقاتل ، ولم يخمس السلب . رواه أبو داود [ ص: 346 ] ولم ينقل عنه أنه احتسب من خمس الخمس ، ولأن سببه لا يفتقر إلى اجتهاد الإمام ، فلم يكن من خمس الخمس كسهم الفارس . ( إذا قتله حال الحرب ) فلو قتله بعد انقضائها ، فلا سلب له ؛ لأن عبد الله بن مسعود وقف على أبي جهل ، وقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ؛ لأنه أثبته ، فإن كانت الحرب قائمة ، فانهزم أحدهم ، فقتله إنسان فله سلبه ؛ لأنها كر وفر ، ولأن سلمة بن الأكوع قتل طليعة الكفار ، وهو منهزم ، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسلبه له أجمع . رواه أبو داود . ولو أثخنه بالجراح استحق سلبه ؛ لأنه في حكم المقتول ( منهمكا على القتال ) أي : مقبلا على القتال ، فإن كان منهزما فلا سلب له ، نص عليه ؛ لأنه لم يغرر في قتله . وفي " الترغيب " و " البلغة " إلا متحرفا لقتال ، أو متحيزا إلى فئة . قال أحمد : إنما سمعنا : له سلبه في المبارزة وإذا التقى الزحفان . وظاهره لو كان المقتول صبيا أو امرأة ، وقطع به في " المغني " و " الشرح " لجواز قتلهم إذا ، وفي الآخر : لا يستحق سلبه سدا للذريعة ، وأطلقها في " المحرر " أما إذا لم يكن من المقاتلة كالشيخ الفاني والصبي ونحوه ، ممن نهي عن قتله ، لم يستحق قاتله سلبه بغير خلاف . ( غير مثخن ) أي : لا بد أن يكون المقتول فيه منعة ، فلو كان مثخنا بالجراح ، وقتله آخر فلا يستحق سلبه لما تقدم من حديث ابن مسعود ، ولعدم التغرير ( وغرر بنفسه في قتله ) أي : بأن يقتله حال المبارزة ، والحرب قائمة . فلو رماه بسهم من جانب أو أغرى به كلبا عقورا ، فقتل ، فلا سلب ، ويكون غنيمة . وظاهره أن كل واحد منهما شرط . وقوى الزركشي أن كلها ترجع إلى التغرير ، وأن القاتل يستحق السلب ، قال ذلك الإمام أو لم يقله ، وصرح به " الخرقي " وهو قول [ ص: 347 ] أكثر العلماء ، ونص عليه لعموم الأدلة ( وعنه : لا يستحقه إلا من شرط له ) اختارها أبو بكر في " الانتصار " والطريق الأقرب ، وأخذها القاضي من قول أحمد : ليس له ذلك إلا أن يناله بإذن الإمام ، وفيه نظر ، فإن عوفا قال لخالد : أما تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل ؛ قال : بلى . رواه مسلم ، فدل على أن هذه من قضايا النبي - صلى الله عليه وسلم - العامة المشهورة ، وأنه حكم مستمر لكل قاتل .

( فإن قطع أربعته وقتله آخر ، فسلبه للقاطع ) وحده ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى معاذ بن عمرو بن الجموح سلب أبي جهل ، ولم يعطه ابن مسعود مع أنه تمم قتله ؛ لأن القاطع هو الذي كفى المسلمين شره . ( وإن قتله اثنان ؛ فسلبه غنيمة ) في ظاهر كلامه ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشرك بين اثنين في سلب ، ولأنه إنما يستحق بالتغرير في قتله ، ولا يحصل بالاشتراك فوجب كونه غنيمة ، كما لو قتله جماعة ( وقال القاضي ) والآجري : ( هو لهما ) أي : يشتركان في سلبه ، لعموم من " قتل قتيلا فله سلبه " ولأنهما اشتركا في السبب ، فيشتركان في السلب . فلو اشتركا في ضربه ، وكان أحدهما أبلغ في قتله من الآخر ، فله سلبه ( وإن أسره فقتله الإمام ) أو غيره ( فسلبه غنيمة ) لأن الذي أسره لم يقتله ، والغير لم يغرر بنفسه في قتله . وكذا لو استحياه الإمام فرقيته إن رق ، وفداؤه إن فدي غنيمة ؛ لأنه قد أسر المسلمون يوم بدر أسرى فقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم واستبقى ، ولم ينقل أنه أعطى أحدا ممن أسرهم سلبا ، ولا فداء ( وقال القاضي : هو لمن أسره ) لأن الأسر أصعب من القتل ، فإذا استحق السلب به كان تنبيها على استحقاقه بالأسر . ( وإن قطع يده ورجله وقتله آخر ، فسلبه غنيمة ) على المذهب ؛ لأنه لم [ ص: 348 ] ينفرد أحدهما بقتله ، ولم يستحقه القاتل ؛ لأنه مثخن بالجراح ( وقيل : هو للقاتل ) لعموم الخبر ، وقيل : هو للقاطع ؛ لأنه عطله كقتله ، فلو قطع يديه أو رجليه ، فالحكم على ما سبق ذكره في " الشرح " وغيره .

فرع : إذا قطع منه يدا أو رجلا ، ثم قتله آخر ، فسلبه للقاتل ، كما لو عانقه ، فقتله أو كان الكافر مقبلا على مسلم ، فقتله آخر من ورائه ، وقيل : غنيمة لعدم الانفراد بقتله .

تنبيه : لا تقبل دعوى القتل إلا ببينة ، وقال الأوزاعي : يعطى السلب لمن قال : أنا قتلته بغير بينة ؛ لأنه - عليه السلام - قبل قول أبي قتادة ، وجوابه الخبر الآخر ، وبأن خصمه أقر له ، فاكتفى بقوله ، وقال جماعة من أهل الحديث : يقبل شاهد ويمين ، كغيره من الأموال ، وحكى في " الشرح " احتمالا : يقبل فيه شاهد بغير يمين ؛ لأنه - عليه السلام - قبل قول الذي شهد لأبي قتادة من غير يمين ، وجوابه : أن الشارع اعتبر البينة ، وإطلاقها ينصرف إلى شاهدين ، وكقتل العمد .

( والسلب ما كان عليه من ثياب ) وعمامة وقلنسوة ودرع . ( وحلي ) كسوار ، ومنطقة ذهب وران وتاج . ( وسلاح ) كسيف ورمح وقوس ولت ونحوها ؛ لأنه يستعين بها في حربه فهو أولى بالأخذ من الثياب ، وعنه في السيف : لا أدري . ( والدابة بآلتها ) أي : من السلب لحديث عوف بن مالك . رواه الأثرم ، ولأن الدابة يستعان بها في الحرب كالسلاح ، وآلتها كلجام ، وسرج ، ولو كثرت قيمته ؛ لأنه تابع لها . وظاهره أن ما كان محمولا عليها من دراهم ، ونحوه لا يدخل ( وعنه : أن الدابة ليست من السلب ) اختارها أبو بكر ؛ لأن السلب ما كان على بدنه ، [ ص: 349 ] وهي ليست كذلك . وذكر أحمد خبر عمرو بن معدي كرب فأخذ سواريه ومنطقته ، ولم يذكر الدابة . فعلى هذا ، هي وما عليها غنيمة ، وعلى المذهب شرطه أن يكون قاتل عليها راكبا ، فلو صد عنها ، ثم قتله بعد نزوله عنها فهي من السلب ، فإن كانت في منزله أو مع غيره فلا ، كسلاحه الذي ليس معه ، وإن كان ممسكا بعنانها فالخلاف . ( ونفقته ) على الأصح ( وخيمته ورحله ) وجنيبه الذي في يده ( غنيمة ) لأن ذلك ليس من الملبوس ، ولا مما يستعان به في الحرب أشبه بقية أموال الكفار ؛ لكن يشكل عليه الجنيب . وجوابه : أنه لا يمكنه ركوبهما معا . ألحق في " التبصرة " حلية الدابة بذلك ، وفيه شيء .

فصل .

يجوز سلب القتلى وتركهم عراة ، وكرهه الثوري وغيره ، لما فيه من كشف عوراتهم ، ويكره نقل رءوسهم من بلد إلى آخر ، والمثلة بقتلاهم ، ويكون رميها بمنجنيق ، نص عليه ، وأول من حملت إليه الرءوس عبد الله بن الزبير ، قال أحمد : ولا ينبغي أن يعذبوه ، وعنه : إن مثلوا مثل بهم ، ذكره أبو بكر ، قال الشيخ تقي الدين : المثلة حق لهم ، فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر ، ولهم تركها ، والصبر أفضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية