صفحة جزء
[ ص: 384 ] باب الفيء وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال كالجزية والخراج والعشر ، وما تركوه فزعا ، وخمس خمس الغنيمة ، ومال من مات لا وارث له ، فيصرف في المصالح ، ويبدأ بالأهم فالأهم من سد الثغور وكفاية أهلها وما يحتاج إليه من يدفع عن المسلمين ، ثم الأهم فالأهم من سد البثوق ، وكري الأنهار ، وعمل القناطر ، وأرزاق القضاة ، وغير ذلك ، ولا يخمس . وقال الخرقي : يخمس فيصرف خمسه إلى أهل الخمس ، وباقيه للمصالح وإن فضل منه فضل ، قسم بين المسلمين ويبدأ بالمهاجرين ، ثم الأنصار ، ثم سائر المسلمين . وهل يفاضل بينهم ؛ على روايتين . ومن مات بعد حلول وقت العطاء ، دفع إلى ورثته حقه ، ومن مات من أجناد المسلمين ، دفع إلى امرأته وأولاده الصغار كفايتهم ، فإذا بلغ ذكورهم ، فاختاروا أن يكونوا في المقاتلة ، فرض لهم ، وإن لم يختاروا ، تركوا .


باب الفيء .

أصله من الرجوع يقال : فاء الظل : إذا رجع نحو المشرق ، وسمي المال الحاصل على ما يذكره فيئا ؛ لأنه رجع من المشركين إليهم ، والأصل فيه قوله تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب الآيتين [ الحشر : 6 ] . ( وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال ) يحترز به عن الغنيمة ( كالجزية والخراج والعشر ، وما تركوه فزعا ) من المسلمين . ( وخمس خمس الغنيمة ، ومال من مات لا وارث له ) من أهل الذمة ، ويلحق به المرتد إذا هلك ( فيصرف في المصالح ) أي : مصالح المسلمين للآيتين ، ولهذا لما قرأ عمر للفقراء المهاجرين الآية [ الحشر : 8 ] قال : هذه استوعبت المسلمين ، وقال أيضا : ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب إلا العبيد . وذكر أحمد الفيء فقال : فيه حق لكل المسلمين ، وهو بين الغني والفقير ، ولأن المصالح نفعها عام ، والحاجة داعية إلى فعلها تحصيلا لها ، واختار أبو حكيم والشيخ تقي الدين : لا حق فيه لرافضة . وذكره في " الهدي " عن مالك وأحمد ، وقيل : يختص بالمقاتلة ؛ لأنه كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته لحصول النصرة ؛ فلما مات صارت بالجند ، ومن يحتاج إليه المسلمون . ( ويبدأ بالأهم فالأهم ) من المصالح العامة لأهل الدار التي بها حفظ المسلمين ، وأمنهم من العدو . ( من سد الثغور ) بأهل القوة من الرجال والسلاح ( وكفاية أهلها ) أي : القيام بكفايتهم ( وما يحتاج إليه ) من غير أهل الثغور . ( من يدفع عن المسلمين ) لأن الحاجة داعية إلى ذلك ، ودفع الكفار هو المقصود ، فلذلك قدم على غيره ( ثم الأهم فالأهم من سد [ ص: 385 ] البثوق ) جمع بثق ، وهو المكان المنفتح في جانبي النهر . ( وكري الأنهار ) أي : تعزيلها . ( وعمل القناطر ) . وهي الجسور ( وأرزاق القضاة ) العلماء ( وغير ذلك ) كالفقهاء والأئمة والمؤذنين ونحوهم ، مما للمسلمين فيه نفع ، ولأن ذلك من المصالح العامة أشبه الأول ( ولا يخمس ) في ظاهر المذهب ، وقاله الأكثر ؛ لأن الله - تعالى - أضافه إلى أهل الخمس ، كما أضاف خمس الغنيمة ، فإيجاب الخمس فيه لأهله دون باقيه منع لما جعله الله - تعالى - لهم بغير دليل ، ولو أريد الخمس منه لذكره الله - تعالى - كما ذكره في خمس الغنيمة فلما لم يذكره ظهر إرادة الاستيعاب ( وقال الخرقي يخمس ) هذا رواية ، واختاره أبو محمد يوسف الجوزي ، لقوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله الآية [ الحشر : 7 ] لأنها اقتضت أن يكون جميعه هؤلاء الأصناف ، ولا شك أنهم أهل الخمس ، والآية السابقة ، وما ورد عن عمر وغيره يدل على اشتراك جميع المسلمين فيه ، فوجب الجمع بينهما للتناقض ، والتعارض ، وفي إيجاب الخمس فيه جمع بين الأدلة فإن خمسه لمن ذكر ، وسائره لجميع المسلمين ، ولأنه مال مظهور عليه ، فوجب تخميسه كالغنيمة ( فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه للمصالح ) لما ذكرنا ، لكن قال القاضي : لم أجد لما قال الخرقي نصا فأحكيه ، وإنما نص على أنه غير مخموس . قال ابن المنذر : ولا يحفظ عن أحد قبل الشافعي ، واختاره الآجري ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمه خمسة وعشرين سهما ، فله أربعة أخماس ، ثم خمس الخمس أحد وعشرون سهما في المصالح ، وبقية خمس الخمس لأهل الخمس . وذكر ابن الجوزي في " مسند عمر " كان ما لم يوجف عليه ملكا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، واختاره أبو بكر .

[ ص: 386 ] ( وإن فضل منه فضل ، قسم بين المسلمين ) للآية ، ولأنه مال فضل عن حاجتهم ، فقسم بينهم لذلك . وظاهره أن الغني كالفقير على المذهب ؛ لأنه مال استحقوه بمعنى مشترك فاستووا فيه كالميراث . وعنه : يقدم المحتاج قال الشيخ تقي الدين : هي أصح عنه لقوله - تعالى - للفقراء ، ولأن المصلحة في حقه أعظم منها في حق غيره ؛ لأنه لا يتمكن من حفظ نفسه من العدو بالعدة ، ولا بالهرب لفقره بخلاف الغني ، ويستثنى منه العبيد ، فإنه لا شيء لهم منه ، نص عليه ؛ لأنه مال فلا حظ لهم فيه كالبهائم ، وأعطى الصديق العبيد ، ذكره الخطابي .

فرع : ليس لولاة الفيء أن يستأثروا منه فوق الحاجة كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه ، أو إلى من يهوونه . ذكره الشيخ تقي الدين ( و ) يستحب أن ( يبدأ بالمهاجرين ) جمع مهاجر اسم فاعل من هاجر بمعنى : هجر ، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أخرى ، وتطلق الهجرة ، بأن يترك الرجل أهله وماله ، وينقطع بنفسه إلى مهاجره ، ولا يرجع من ذلك بشيء . وهجرة الأعراب : وهو أن يدع البادية ، ويغزو مع المسلمين ، وهي دون الأول في الأجر ، والمراد هنا : أولاد المهاجرين الذين هجروا أوطانهم ، وخرجوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم جماعة مخصوصون ( ثم الأنصار ) وهم الحيان : الأوس والخزرج . وقدموا على غيرهم ، لسابقتهم وآثارهم الجميلة . ( ثم سائر المسلمين ) ليحصل التعميم بالدفع ، وصرح في " الشرح " بأن العرب تقدم على العجم والموالي .

( وهل يفاضل بينهم ) بالسابقة ( على روايتين ) كذا في " المحرر " و " الفروع " إحداهما : يسوي بينهم ، وجزم بها في " الوجيز " وهي مذهب أبي بكر ( وعلي - رضي الله عنهما - لأن الغنائم تقسم بين من حضر بالسوية ، فكذا الفيء . لكن [ ص: 387 ] أبو بكر أعطى العبيد ، ومنعهم علي . والثانية : يجوز التفاضل بينهم ، وهي مذهب عمر وعثمان - رضي الله عنهما - قال عمر : لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه ، ولأنه - عليه السلام - قسم النفل بين أهله متفاضلا على قدر غنائهم ، وهذا في معناه ، وصحح في " المغني " و " الشرح " أن ذلك مفوض إلى اجتهاد الإمام بحسب المصلحة ، وقد فرض عمر لكل واحد من المهاجرين من أهل بدر خمسة آلاف ، ومن الأنصار أربعة آلاف ، والعطاء الواجب لا يكون إلا لبالغ عاقل حر بصير صحيح ، يطيق القتال ، فإن حدث به مرض غير مرجو الزوال كزمانة ونحوها " فلا حق له في الأصح .

( ومن مات بعد حلول وقت العطاء ، دفع إلى ورثته حقه ) لأنه مات بعد الاستحقاق ، وانتقل حقه إلى ورثته كسائر الموروثات .

( ومن مات من أجناد المسلمين ، دفع إلى امرأته ، وأولاده الصغار كفايتهم ) لما فيه من تطييب قلوب المجاهدين ، لأنهم إذا علموا أن عيالهم يكفون المئونة بعد موتهم ، توفروا على الجهاد ، بخلاف عكسه . فإن تزوجت المرأة ، أو واحدة من البنات ، سقط فرضها ؛ لأنها خرجت عن عيال الميت ( فإذا بلغ ذكورهم ) وكانوا أهلا للقتال ( فاختاروا أن يكونوا في المقاتلة فرض لهم ) لأنهم أهل لذلك ، ففرض لهم كآبائهم . وفي " الأحكام السلطانية " مع الحاجة إليهم ( وإن لم يختاروا تركوا ) لأن البالغ لا يجبر على خلاف مراده إلا لواجب عليه ، ولا شك أن دخولهم في ديوان المقاتلة ليس بواجب .

[ ص: 388 ] تنبيه : بيت المال ملك للمسلمين ، فيضمنه متلفه ، ويحرم التصرف فيه إلا بإذن الإمام ، ذكره في " عيون المسائل " و " الانتصار " ، وذكر القاضي وابنه أن المالك غير معين ، وفي " المغني " كالأول ، وللإمام تعيين مصارفه ، وترتيبها فافتقر إلى إذنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية