صفحة جزء
[ ص: 404 ] باب عقد الذمة لا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل ، كالسامرة والفرنج ومن له شبهة كتاب كالمجوس . وعنه : يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب . فأما الصابئ ، فينظر فيه ؛ فإن انتسب إلى أحد الكتابين ، فهو من أهله وإلا فلا . ومن تهود أو تنصر بعد بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم ، أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما ، فعلى وجهين . ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي ما تؤخذ من المسلمين ، ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ، ومصرفه مصرف الجزية . وقال الخرقي : مصرف الزكاة ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم . وقال القاضي : تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم .


باب عقد الذمة .

قال : أبو عبيد : الذمة : الأمان ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بذمتهم أدناهم والذمة : الضمان والعهد ، من : أذمه يذمه : إذا جعل له عهدا .

ومعنى عقد الذمة : إقرار بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية ، والتزام أحكام الملة .

( لا يجوز عقدها إلا ) من الإمام أو نائبه في الأشهر ، وحينئذ يجب عقدها إذا اجتمعت شروطها ما لم يخف غائلة منهم .

وصفة عقدها : أقررتكم بجزية ، أو يبذلونها ؛ فيقول : أقررتكم على ذلك .

والجزية : مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا ( لأهل الكتاب وهم اليهود ) واحدهم يهودي حذفوا ياء النسبة في الجمع كزنج ، وزنجي . وفي تسميتهم بذلك لأنهم هادوا عن عبادة العجل أي : تابوا ، أو لأنهم مالوا عن دين الإسلام ، أو أنهم يهودون عند قراءة التوراة أي : يتحركون أو لنسبهم إلى يهوذا بن يعقوب بالمعجمة ، ثم عربت بالمهملة . ( والنصارى ) واحدهم نصراني ، والأنثى نصرانية نسبة إلى قرية بالشام يقال لها : نصران ، وناصرة ( ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل كالسامرة ) وهي قبيلة من بني إسرائيل نسب إليهم السامري ، ويقال لهم في زمننا : سمرة بوزن سحرة ، وهم طائفة من اليهود يتشددون في دينهم ، ويخالفونهم في بعض " الفروع " . ( والفرنج ) وهم الروم ، ويقال لهم : بنو الأصفر ، والأشبه أنها مولدة نسبة إلى فرنجة بفتح أوله وثانيه وسكون ثالثه ، وهي جزيرة من جزائر البحر ، والنسبة إليها فرنجي ، ثم [ ص: 405 ] حذفت ، والأصل فيه قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] وقول المغيرة بن شعبة لعامل كسرى : أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية . رواه أحمد ، والبخاري . والإجماع على قبول الجزية ممن بذلها من أهل الكتاب ، ومن يلحق بهم . وإقرارهم بذلك في دار الإسلام . ( ومن له شبهة كتاب كالمجوس ) لأن عمر لم يأخذها منهم حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر . رواه البخاري . وفي رواية أنه - عليه السلام - قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب . رواه الشافعي ، وإنما قيل : لهم شبهة كتاب ؛ لأنه روي أنه كان لهم كتاب ، فرفع ، فصار لهم بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم ، وأخذ الجزية منهم . ولم ينتهض في إباحة نسائهم ، وحل ذبائحهم .

( وعنه : يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب ) لما روى الزهري أن النبي صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب . وفي " الفنون " لم أجد أصحابنا ذكروا أن الوثني يقر بجزية ، ثم ذكر أنه وجد رواية بخط أبي سعد البرداني أن عبدة الأوثان يقرون بجزية ؛ فيعطي هذا أنهم يقرون بجزية على عمل أصنام يعبدونها في بيوتهم ، ولم يسمع بذلك في سيرة من سير السلف وبعدها . واختار الشيخ تقي الدين أخذها من الكل ، ومقتضى ما ذكره أن عبدة الأوثان من العرب لا تقبل منهم ، لكونهم من رهط النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرفوا به ، فلا يقرون على غير دينه وغيرهم يقر بالجزية ؛ لأنه يرق بالاسترقاق كالمجوس . ( فأما الصابئ فينظر فيه ، فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله ) [ ص: 406 ] وقاله جمع ؛ لأنه قد صار مشاركا لأهله في ذلك الكتاب ، وإن سموا باسم آخر ؛ لأن الموافقة في الدين توجب الموافقة في الحكم . والمذهب أنهم جنس من النصارى ، وروي عن أحمد أنه قال : إنهم يسبتون ، وهو قول عمر ، وقال مجاهد : هم بين اليهود والنصارى . ( وإلا فلا ) أي : إن لم ينسب إلى ذلك فليس من أهل الكتاب ؛ لأنه روي أنهم يقولون : إن الفلك حي ناطق ، وإن الكواكب السبعة آلهة ؛ وحينئذ فهم كعبدة الأوثان .

( ومن تهود أو تنصر ) أو تمجس ( بعد بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم ) فالمذهب أنه يقر عليه ، ويكون كالأصلي في قبول الجزية ؛ لأنه - عليه السلام - كان يقبلها منهم من غير سؤال . ولو اختلف الحكم لسأل عنه ، ولو وقع لنقل ، وعنه : لا نقبل منه إلا الإسلام أو القتل ؛ لأنه بتركه الدين الأول هو مقر ببطلانه ، فلا يقر على دين باطل غيره . وعنه : يقر على غير المجوسية ؛ لأن التمجس لم يرد به نص فيبقى على الأصل ، وعلم منه أن الانتقال إليها قبل البعثة يكون من أهلها ؛ لأن الإسلام أتى وهو على أصل الدين . وفي " المذهب " و " الترغيب " و " المستوعب " وذكره أبو الخطاب : قبل البعثة بعد التبديل كبعد البعثة . وقدم في " التبصرة " ولو قبل التبديل ( أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما ) كولد الوثني من كتابية ( فعلى وجهين ) ؛ أصحهما : أنها تقبل منه الجزية إذا اختار دين الآخر ، لعموم النص فيهم ، ولأنه اختار أفضل الدينين ، وأقلهما كفرا . والثاني : لا يقبل منه سوى الإسلام ؛ لأنه تعارض فيه القبول وعدمه فرجع إلى الأصل . ومحل ذلك إذا اختار من تقبل منه الجزية ( ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب ) بن وائل [ ص: 407 ] من العرب من ولد ربيعة بن نزار فإنهم انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية ؛ فأبوا وقالوا : نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة ، فقال عمر : لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية ، فلا تعن عليك عدوك بهم ، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة ، فبعث عمر في طلبهم فردهم . ( وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي ما تؤخذ من المسلمين ) لأن تمام حديث عمر أنه ضعف عليهم من الإبل في كل خمس شاتان ، وفي كل ثلاثين بقرة تبيعان ، وفي كل عشرين دينارا دينار ، وفي مائتي درهم عشرة دراهم ، وفيما سقت السماء الخمس ، وفيما سقي بنضح أو دولاب العشر . واستقر ذلك من قوله ، ولم ينكر فكان كالإجماع ، وفي عبارته تسامح . والأولى أن يقال : وتؤخذ عوض الجزية منهم مثلا زكاة المسلمين . ( ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ) وكذا مكافيفهم ، وشيوخهم ؛ لأن اعتبارها بالأنفس سقط ، وانتقل إلى الأموال بتقريرهم فيؤخذ من كل مال زكوي سواء كان صاحبه من أهل الجزية أو لم يكن ، ولأن نساءهم ، وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ، ودخلوا في حكمه ، فجاز أن يدخلوا في الواجب به ، كالرجال العقلاء ؛ فعلى هذا من كان فقيرا أو له مال غير زكوي ، فلا شيء عليه ، كما لا يجب على أهل الزكاة من المسلمين . وحينئذ يتقيد بالنصاب . ( ومصرفه مصرف الجزية ) في الأشهر ؛ لأنه مأخوذ من مشرك فكان جزية ، وغايته أنه جزية مسماة بالصدقة ، ولذلك قال عمر : هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى ، وأبوا الاسم . ( وقال الخرقي : مصرف الزكاة ) هذا [ ص: 408 ] رواية ، واختارها جمع ؛ لأنه مسمى بالصدقة فكان مصرفه مصرفها . والأول أقيس ؛ لأن المعنى أخص من الاسم ، ولو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم ، كصدقة المسلمين . ( ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم ) نص عليه ، لقوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية [ التوبة : 29 ] ولقوله - عليه السلام - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن خذ من كل حالم دينارا ، وهم عرب . قال الزهري : أول من أعطى الجزية أهل نجران ، وكانوا نصارى ، وأخذها من أكيدر دومة وهو عربي ، وحكمها ثابت في كل كتابي ، عربيا كان أو غيره ، إلا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر إياهم فيبقى ما عداهم على مقتضى العموم . ولا يصح قياس غيرهم عليهم لأوجه . ( وقال القاضي : تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم ) لأنهم من العرب ، أشبهوا بني تغلب ، وذكر هو وأبو الخطاب أن حكم من تنصر من تنوخ ، وتهود من كنانة ، وتمجس من تميم حكم بني تغلب سواء . وقيل : لا ، واختارها المؤلف ، وحكاه نص أحمد .

فرع : للإمام مصالحة مثلهم من العرب إذا خشي ضرره بقوة شوكة ، وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة ، نص عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية