صفحة جزء
[ ص: 65 ] باب الآنية

كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله ، ولو كان ثمينا كالجوهر
، ونحوه إلا آنية الذهب والفضة ، والمضبب بهما ، فإنه يحرم اتخاذها ، واستعمالها على الرجال والنساء فإن توضأ منها ، فهل تصح طهارته ؛ على وجهين إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة ، كتشعيب القدح ، ونحوه ، فلا بأس بها إذا لم يباشرها بالاستعمال .


باب الآنية .

الآنية هي الأوعية : جمع إناء كسقاء وأسقية ، وجمع الآنية أوان ، والأصل أآني أبدلت الهمزة الثانية واوا كراهة اجتماع همزتين ، كآدم وأوادم ، وهو مشتق من الأدمة ، أو من أديم الأرض ، أي : وجهها ، وهي ظروف الماء ، لأنه لما ذكر الماء ذكر ظرفه .

( كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله ) كالخشب ، والجلود ، والصفر ، والحديد ، ويستثنى منه جلد الآدمي ، وعظمه لحرمته ( ولو كان ) الإناء ( ثمينا كالجوهر ونحوه ) كبلور ، وياقوت ، وزمرد ، وهذا قول عامة العلماء من غير كراهة إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كره الوضوء في الصفر ، والنحاس ، والرصاص ، واختاره أبو الفرد المقدسي ، لأن الماء يتغير فيها ، وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس ، والأول أولى لما روى عبد الله بن زيد قال : أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ .

رواه البخاري ، وقد ورد أنه توضأ من جفنة ، ومن تور حجارة ، ومن إداوة ، ومن قربة ، فثبت الحكم فيها لفعله ، وما في معناه قياسا ، لأنه مثله ، ولأن العلة المحرمة للنقدين مفقودة في الثمين ، لكونه لا يعرفه إلا خواص الناس ، فلا يؤدي إلى الخيلاء ، وكسر قلوب الفقراء ، ولأن إباحته لا تفضي إلى استعماله لقلته ، بخلاف النقدين فإنهما في مظنة الكثرة ، فيفضي إلى الاستعمال ، وكثرة أثمانها لا تصلح فارقا كما في الثياب ، فإنه يحرم الحرير ، وإن قل ثمنه ، بخلاف غيره ، وإن بلغ ثمنه أضعاف [ ص: 66 ] ثمن الحرير ، وكذلك يباح فص الخاتم جوهرة ، ولو بلغ ثمنها مهما بلغ ، ويحرم ذهبا ، ولو كان يسيرا ( إلا آنية الذهب والفضة ) حتى الميل ونحوه ، ( والمضبب بهما ) لأن علة تحريم النقدين هي الخيلاء ، وكسر قلوب الفقراء ، وهي موجودة في المضبب بهما ، ويأتي حكمها ( فإنه يحرم اتخاذها ) ذكر في " الشرح " عن شيخه أنه قال : لا يختلف المذهب فيما علمنا في تحريماتخاذ آنية الذهب والفضة ، وليس كذلك ، بل الخلاف فيه مشهور ، فذكر ابن تميم ، وصاحب " المحرر " رواية ، وبعضهم حكاه وجها : أنه لا يحرم الاتخاذ وفاقا للشافعي ، لأنه لا يلزم من تحريم الاتخاذ ، كما لو اتخذ الرجل ثياب الحرير ، وقال أبو الحسن التميمي : إذا اتخذ مسعطا ، أو قنديلا ، أو نعلين ، أو مجمرة ، أو مدخنة من النقدين كره ولم يحرم ، والأول هو المشهور عند العلماء ، وفي المذهب ، لأن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال ، كالملاهي ، وأما ثياب الحرير فإنها لا تحرم مطلقا ، لأنها تباح للنساء ، وتباح للتجارة فيها ( واستعمالها ) هذا مما اتفق على تحريمه ، لما روى حذيفة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة .

وروت أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليهما ، فتوعد عليه بالنار ، فدل على تحريمه ، والجرجرة : هي صوت وقوع الماء بانحداره في الجوف ، وغير الأكل والشرب في معناه ، خرج في مخرج الغالب ، وما كان كذلك لا يتقيد الحكم به لقوله تعالى وإن كنتم على سفر الآية ( على الرجال والنساء ) لعموم الأخبار ، والمعنى فيهما أن كلا من الجنسين مكلف ، ولم يكن [ ص: 67 ] دليل مخصص . وإنما أبيح التحلي للنساء لحاجتهن إليه لأجل التزين للزوج ( فإن توضأ منها ) وفيها ، وإليها ، وفي إناء مغصوب ، أو ثمنه ( فهل تصح طهارته ؛ على وجهين ) أحدهما : تصح صححه في " المغني " و " الشرح " ، وقدمه في " الفروع " لأن الإناء ليس بشرط ، ولا ركن للعبادة ، فلم يؤثر لأنه أجنبي ، والثاني : لا تصح ، اختاره أبو بكر ، والقاضي ، وابنه أبو الحسين لإتيانه بالعبادة على وجه محرم ، أشبه الصلاة في الأرض المغصوبة ، وفرق بينهما في " المغني " ، و " الشرح " بأن الأفعال في الدار المغصوبة محرم بخلاف مسألتنا ، وقيل : في صحة الوضوء والغسل روايتان ، وجزم في " الوجيز " بالصحة مع الكراهة منه ، وبه ، وفيه ، وصرح بهما الخرقي . والأشهر على أن مراده بالكراهة التحريم ، فعلى عدم الصحة إن جعلها مصبا للماء صح ، ذكره في " المغني " ، و " الشرح " لأن المنفصل الذي يقع في الآنية قد رفع الحدث ، فلم يزل كذلك بوقوعه فيه ، وذكر ابن عقيل أنه لا يصح لوجود الفخر والخيلاء ( إلا أن تكون الضبة يسيرة ) عرفا ( من الفضة ، كتشعيب القدح فلا بأس بها ) لما روى البخاري ، عن أنس : أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر ، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة ، ولأنه ليس فيه سرف ولا خيلاء ، وظاهره أن المضبب بذهب حرام مطلقا لقوله عليه السلام : لا يصلح من الذهب ولا خربصيصة وفيه وجه .

وكذا المضبب بفضة سواء كانت كثيرة ، لحاجة أو لغيرها ، وهو أحد الوجوه لما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من شرب من إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه [ ص: 68 ] شيء من ذلك ، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم رواه الدارقطني .

فمقتضى هذا تحريم المضبب مطلقا ، ترك العمل به فيما ضبته يسيرة ، للنص السابق . فيبقى ما عداه على مقتضاه ، والحاجة غير مشترطة في اليسيرة ، وصرح به في " المغني " ، و " الشرح " ، وحكياه عن القاضي ، لأنه لا سرف فيه ، ولا خيلاء ، أشبه الصفر ، إلا أنه كره الحلقة لأنها تستعمل ، وقال أبو الخطاب : لا تباح إلا لحاجة ، وجزم به الشيخان ، وفي " الوجيز " ، لأن الرخصة وردت في الحاجة ، فيجب قصر الحكم عليها ، فعلى هذا تباح وفاقا ، وقيل : تكره ( إذا لم يباشرها بالاستعمال ) لئلا يكون مباشرا للفضة التي جاء الوعيد في استعمالها ، وظاهره أنه يكره إذا باشرها بالاستعمال ، قدمه في " الرعاية " ، والمذهب أنه يباح مباشرتها مع الحاجة وبدونها ، فظاهر كلامه أنه يحرم ، وقيل : يكره ، وقيل : يباح ، والكثير ما كثر في العرف ، وقيل : ما لاح على بعد ، وقيل : ما استوعب أحد جوانبه ، والحاجة أن يتعلق به غرض غير الزينة في ظاهر كلام بعضهم ، وقال الشيخ تقي الدين : مرادهم أن يحتاج إلى تلك الصورة ، لا إلى كونها من ذهب ، أو فضة ، فإن هذه ضرورة ، وهي تبيح المنفرد .

فرع : المطلي ، والمطعم ، ونحوهما كمموه ، ومكفت ، بأحدهما كالمصمت ، وقيل : لا ، وقيل : لو حك واجتمع منه شيء ، حرم ، وإلا فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية