صفحة جزء
ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون ، ولا زمن ولا أعمى ، ولا عبد ، ولا فقير يعجز عنها ومن بلغ أو أفاق ، أو استغنى فهو من أهلها بالعقد الأول تؤخذ منه في آخر الحول بقدر ما أدرك ، ومن كان يجن ويفيق ، لفقت إفاقته ، فإذا بلغت حولا ، أخذت منه . ويحتمل أن تؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه وتقسم الجزية بينهم فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهما ، وعلى المتوسط أربعة وعشرون ، وعلى الفقير اثنا عشر ، والغني منهم من عده الناس غنيا في ظاهر المذهب ، ومتى بذلوا الواجب عليهم ، لزم قبوله وحرم قتالهم . ومن أسلم بعد الحول ، سقطت عنه الجزية ، وإن مات ، أخذت من تركته ، وقال القاضي : تسقط . وإن اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها . وتؤخذ الجزية في آخر الحول ، ويمتهنون عند أخذها ، ويطال قيامهم ، وتجر أيديهم ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين ، وتبين أيام الضيافة وقدر الطعام والإدام والعلف وعدد من يضاف ، ولا تجب من غير شرط . وقيل : تجب . فإذا تولى إمام ، فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم أقرهم عليه ، وإن لم يعرف ، رجع إلى قولهم فإن بان له كذبهم ، رجع عليهم ، وعند أبي الخطاب أنه يستأنف العقد معهم . وإذا عقد الذمة ، كتب أسماءهم ، وأسماء آبائهم ، وحلاهم ، ودينهم ، وجعل لكل طائفة عريفا يكشف حال من بلغ أو استغنى أو أسلم ، أو سافر ، أو نقض العهد ، أو خرق شيئا من أحكام الذمة .


( ولا جزية على صبي ) لأن مثلهم ممتنع لأنهم ليسوا من أهل القتال لقوله - تعالى - قاتلوا [ التوبة : 29 ] والمقاتلة إنما تكون من اثنين ، وكتب عمر إلى أمراء الأجناد : أن اضربوا الجزية ، ولا تضربوها على النساء ، والصبيان . رواه سعيد . ( ولا امرأة ) لما ذكرنا ، فإن بذلتها أخبرت بأنها لا يجب عليها ، فإن تبرعت بها ، قبلت ، وتكون هبة تلزم بالقبض ؛ فإن شرطته [ ص: 409 ] على نفسها ، ثم رجعت ، فلها ذلك ، فإن بذلتها لدخول دارنا ، مكثت بغير شيء ، لكن يشترط أن تلتزم أحكام الإسلام ، وتعقد لها الذمة . وفي الخنثى المشكل وجهان ؛ جزم في " الشرح " بأنها تجب ؛ لأنه لا يعلم كونه رجلا ؛ فإن بان رجلا فللمستقبل ، ويتوجه وللماضي . ( ولا مجنون ) لأنه في معنى الصبي . ( ولا زمن ولا أعمى ) ولا شيخ فان ، ولا من هو في معناهم ، كمن به داء لا يستطيع القتال معه ، ولا يرجى زواله ؛ لأن الجزية لحقن الدم ، وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها كالنساء . ( ولا عبد ) لقوله - عليه السلام - لا جزية على عبد وعن ابن عمر مثله ، ولأنه مال ، فلم تجب عليه كسائر الحيوانات ، ولا فرق بين أن يكون لمسلم ؛ لأن إيجابها عليه يؤدي إلى إيجابها على المسلم لكونه يؤدي عنه ، أو لكافر ؛ نص عليه ، وهو قول أكثر العلماء ، وعنه : تلزمه ، وتسقط بإسلام أحدهما . وظاهره ، ولو كان مكاتبا قال أحمد : المكاتب عبد .

فرع : إذا أعتق العبد لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان معتقه مسلما أو كافرا . وعنه : يقر بغير جزية ، وضعفها الخلال . وعنه : لا جزية عليه إن كان معتقه مسلما لولايته عليه ، كالرق ، فإن كان معتقا بعضه فيلزمه بقدر جزيته كالإرث في قياس المذهب . ( ولا فقير ) لقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ولأنها مال يجب بحلول الحول ، فلم يلزم الفقير كالزكاة ( يعجز عنها ) لأن الجزية خراج الرءوس ، وإنما يؤخذ الخراج بقدر الغلة ، وإذا لم يكن له غلة ، لم يجب كالأرض التي لا تنبت شيئا .

[ ص: 410 ] وظاهره أنه لو كان لا يعجز عنها وجبت ؛ لأنه في حكم الأغنياء ، وفي الفقير العاجز عنها احتمال بالوجوب كالفقير المعتمل على الأصح .

تنبيه : لا تلزم راهبا بصومعة ، ولم يقيده في " المحرر " و " الوجيز " بها .

وفيه وجه : تجب ؛ لأن عمر بن عبد العزيز فرضها على الرهبان ، على كل راهب دينارا ، قال الشيخ تقي الدين : لا يبقى في يده من المال إلا بلغته . وفي اتجاره أو زراعته ، وهو مخالط لهم فيلزمه إجماعا .

( ومن بلغ أو أفاق أو استغنى ) أو عتق ( فهو من أهلها ) أي : من أهل الجزية ( بالعقد الأول ) ولا يحتاج إلى استئناف عقد له ؛ لأنه لم ينقل تجديده لمن ذكره لكون أن العقد يقع مع سادتهم فيدخل فيه سائرهم . وقال القاضي : يخير بين التزام العقد ، وبين أن يرد إلى مأمنه ، فيجاب إلى ما يختار ؛ فعلى الأول ( تؤخذ منه في آخر الحول ) لأن الجزية للسنة ( بقدر ما أدرك ) فعليه ، إن صار أهلا من أول السنة أخذت منه في آخره ، وإن كان في نصفه ، فنصفها على هذا الحساب . ولا يترك حتى يتم حولا من حين وجد سببه ؛ لأنه يحتاج إلى إفراده بحول ، وضبط كل إنسان بحول يشق ويتعذر . ( ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته ) لأنه أمكن من غير مشقة . ( فإذا بلغت ) إقامته ( حولا أخذت منه ) لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ ( ويحتمل ) هذا قول في المذهب ( أن تؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه ) لأنها تؤخذ في كل حول فوجب الأخذ بحسابه كالمعتق بعضه ، وقيل : يعتبر الغالب ؛ لأن الأكثر له حكم الكل . وقيل فيمن لا ينضبط أمره خاصة ؛ لأن مراعاة ذلك غير ممكنة .

[ ص: 411 ] ( وتقسم الجزية بينهم ) أي : بين أهل الكتاب ومن في معناهم ؛ ( فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهما ) وهي أربعة دنانير ( وعلى المتوسط أربعة وعشرون ) وهي ديناران ( وعلى الفقير اثنا عشر ) وهي دينار لفعل عمر ذلك بمحضر من الصحابة ، ولم ينكر ، فكان كالإجماع .

ويجاب عن قوله - عليه السلام - لمعاذ : خذ من كل حالم دينارا بأن الفقر كان في أهل اليمن أغلب ، ولذلك قيل لمجاهد : ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير ، وأهل اليمن عليهم دينار ، قال : جعل ذلك من أجل اليسار ، وبأن الجزية يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام ، وليس التقدير واجبا ؛ لأنها وجبت صغارا وعقوبة ، واختلفت باختلافهم ، وليست عوضا عن سكنى الدار ، وإلا لوجبت على النساء ، ومن في معناهن .

فرع : يجوز أخذ القيمة ، نص عليه ، لقوله - عليه السلام - أو عدله معافر ، ولتغليب حق الآدمي فيها ، ويجوز أخذ ثمن الخمر ، والخنزير منهم ؛ لأنه من أموالهم التي نقرهم على اقتنائهم كثيابهم .

( والغني منهم من عده الناس غنيا في ظاهر المذهب ) لأن المقادير توقيفية ، ولا توقيف هنا ، فوجب رده إلى العرف كالقبض والحرز ، وقيل : من ملك نصابا - وحكي رواية - فهو غني كالمسلم ، وعنه : من ملك عشرة آلاف دينار فهو غني .

( ومتى بذلوا الواجب عليهم ، لزم قبوله ) لقوله - عليه السلام - لمعاذ ادعهم [ ص: 412 ] إلى الجزية ، فإن أجابوك ، فاقبل منهم ، وكف عنهم ( وحرم قتالهم ) لأن الله - تعالى - جعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم ، ويحرم التعرض إليهم بأخذ المال ( ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية ) لعموم قوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ الأنفال : 38 ] وقوله - عليه السلام - الإسلام يجب ما قبله وعن ابن عباس مرفوعا : ليس على المسلم جزية . رواه أبو داود ، والترمذي ، ولأنها عقوبة سببها الكفر فسقطت بالإسلام ، وفي " الإيضاح " لا تسقط به كسائر الديون . وظاهره أنه إذا أسلم قبل الوجوب لا تؤخذ منه بطريق الأولى ، وقيل : تجب بقسطه ( وإن مات أخذت من تركته ) على المذهب ؛ لأنها دين فلم يسقط به كدين الآدمي ، وكما لو طرأ مانع في الأصح ( وقال القاضي : تسقط ) لأنها عقوبة فسقطت به كالحد .

وجوابه : بأنه إنما سقط الحد لفوات محله بالموت ، وتعذر استيفائه .

( وإن اجتمعت عليه جزية سنين ، استوفيت كلها ) ولم يتداخل كدين الآدمي ، ولأنها حق مال يجب في آخر كل حول فلم يتداخل كالدية ( وتؤخذ الجزية في آخر الحول ) لأنها مال يتكرر بتكرر الحول فلم تؤخذ قبله كالزكاة ، ولا يصح شرط تعجيله ، ولا يقتضيه الإطلاق . قال الأصحاب : لأنا لا نأمن نقض أمانه ، فيسقط حقه من العوض ، وعند أبي الخطاب : يصح ، ويقتضيه الإطلاق ( ويمتهنون عند أخذها ) منهم . ( ويطال قيامهم وتجر أيديهم ) لقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] . وظاهره أن هذه [ ص: 413 ] الصفة مستحقة فلا يقبل إرسالها ، لزوال الصغار ، كما لا يجوز تفرقتها بنفسه ، ولا يصح ضمانها ، وقيل : مستحبة فتنعكس الأحكام ، قال في " الشرح " ، وقيل : الصغار : التزام الجزية ، وجريان أحكامنا عليهم . وظاهره أنهم لا يعذبون في أخذها ، ولا يشتط عليهم . صرح به في " الشرح " وغيره . ( ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين ) لما روي أنه - عليه السلام - ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار ، وكانوا ثلاثمائة نفس ، وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين . وعن عمر أنه قضى عليهم ضيافة ثلاثة أيام ، وعلف دوابهم ، وما يصلحهم ، ولأن في هذا ضربا من المصلحة . ( وتبين أيام الضيافة وقدر الطعام والإدام والعلف وعدد من يضاف ) كذا في " المحرر " وقاله القاضي ، واقتصر في " الوجيز " على الأولين ؛ لأن الضيافة حق وجب فعله ، فوجب بيانه كالجزية . فلو شرط الضيافة وأطلق جاز . ذكره في " الكافي " و " الشرح " ؛ لأن عمر لم يقدر ذلك ، وقال : أطعموهم مما تأكلون ، وقال أبو بكر : الواجب يوم وليلة كالمسلمين . ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم ؛ لكن قال القاضي : لا يلزمهم الشعير مع الإطلاق . والظاهر : بلى للخيل ؛ لأن العادة جارية به ، فهو كالخبز للرجل .

مسألة : تقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فإن جعل الضيافة مكان الجزية جاز ؛ ويشترط أن يبلغ قدرها أصل الجزية إذا قلنا : هي مقدرة ؛ لئلا ينقص خراجه عن أقلها . ( ولا تجب ) الضيافة ( من غير شرط ) ذكره القاضي ؛ لأنها أداء مال ، فلا يلزمهم بغير رضاهم كالجزية ( وقيل : تجب ) بغير شرط لوجوبها على المسلمين كالكافر .

[ ص: 414 ] فعلى هذا تجب ليوم وليلة ، صرح به في " المحرر " وإن شرطها عليهم ، فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة ، فلو قبلوا ، وامتنع البعض من القيام بالواجب ، أجبر عليه كما لو امتنع الجميع ، فإن لم يمكن إلا بالقتال ، قوتلوا فإن قاتلوا ، انتقض عهدهم .

( فإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم أقرهم عليه ) لأن الخلفاء أقروهم على ذلك ، ولم يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا ، ولأنه عقد لازم كالإجارة ، وعقد بالاجتهاد فلا ينقض قوله ؛ فعرف إما بمباشرته من قبل أو قامت به بينة أو ظهر ، واعتبر في " المستوعب " ثبوته . ( وإن لم يعرف ) ذلك ( رجع إلى قولهم ) في وجه ؛ لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم ، والظاهر صدقهم ، فإن اتهمهم ، فله تحليفهم لزوال التهمة ( فإن بان ) أو ظهر ( له كذبهم ) ببينة أو إقرار ( رجع عليهم ) بالنقص لوجوبه عليهم بالعقد الأول فكان للإمام المتجدد أخذه كالأول . ( وعند أبي الخطاب أنه يستأنف العقد معهم ) لأنه لا سبيل إلى معرفته إلا من جهتهم ، وليسوا بمأمونين ، ولا من جهة غيرهم لعدم العلم به ، فوجب استئناف العقد باجتهاده ، كما لو لم يكن عقد سابق . وأطلق الخلاف في " المحرر " و " الفروع " . ( وإذا عقد الذمة كتب أسماءهم وأسماء آبائهم ) فيقول فلان ابن فلان . ( وحلاهم ) جمع حلية ، والمراد بها الحلية التي لا تختلف من طول وقصر ، وسمرة وبياض ؛ أدعج العين ، أقنى الأنف ، مقرون الحاجبين ، ونحوها . ( ودينهم ) أي : يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ( وجعل لكل طائفة عريفا ) وهو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة ( يكشف حال من بلغ ) [ ص: 415 ] ؛ لأن الجزية تجدد به ( أو استغنى أو أسلم ) لأنها تسقط به ( أو سافر ) لتعذر أخذها مع السفر ( أو نقض العهد ) أي : الذمة المعقودة له ، ( أو خرق شيئا من أحكام الذمة ) ليفعل فيه الإمام ما يجب فعله ، والحاجة داعية إلى معرفة ذلك كله .

خاتمة : ليس للإمام تغيير عقد الذمة ؛ لأنه عقد مؤبد ، وقد عقده عمر معهم كذلك ، واختار ابن عقيل جوازه لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة ، وجعله جماعة كتغيير خراج وجزية ، وكلام المؤلف يقتضي الفرق ، وسبق ما يدل عليه .

فائدة : من أخذت منه الجزية ، كتبت له براءة ، لتكون حجة له إذا احتاج إليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية