صفحة جزء
[ ص: 9 ] فصل

الثالث : أن يكون المبيع مالا ، وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة فيجوز بيع البغل والحمار ودود القز وبزرة والنحل منفردا وفي كواراته . . . . . ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد في إحدى الروايتين إلا الكلب ، اختارها الخرقي ، والأخرى لا يجوز ، اختارها أبو بكر . . . . . ويجوز بيع العبد المرتد والمريض ، وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ولبن الآدميات وجهان ، وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله روايتان ، . . . . . ولا يجوز بيع الحشرات والميتة ولا شيء منهما ، ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد ولا الكلب ، ولا السرجين النجس ولا الأدهان النجسة . . . . . . وعنه : يجوز بيعها لكافر يعلم نجاستها ، وفي جواز الاستصباح بها روايتان ، ويخرج على ذلك جواز بيعها .


فصل

( الثالث : أن يكون المبيع مالا ) لأنه يقابل بالمال إذ هو مبادلة المال بالمال ( وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة ) أخرج بالأول : ما لا نفع فيه كالحشرات ، وبالثاني : ما فيه منفعة محرمة كالخمر ، وبالثالث : ما فيه منفعة مباحة للضرورة كالكلب ، ولو عبر بغير حاجة كـ " الوجيز " و " الفروع " لكان أولى ؛ لأن اقتناء الكلب يحتاج إليه ، ولا يضطر إليه قاله ابن المنجا وفي " الشرح " يحترز بقوله : لغير ضرورة من الميتة والمحرمات التي تباح في حال المخمصة ، والخمر تباح لدفع لقمة غص بها ( فيجوز بيع ) العقار ( والبغل والحمار ) لأن الناس يتبايعون ذلك في كل عصر من غير نكير ، فكان كالإجماع قال في " الهداية " : لا إن نجسا ، والمذهب خلافه ( ودود القز ) لأنه حيوان طاهر يجوز اقتناؤه لغرض التملك لما يخرج منه أشبه البهائم ، وحرمه في " الانتصار " كالحشرات وفيه نظر ( وبزرة ) لأنه ينتفع به في المآل أشبه ولد الفرس وفيه وجه ، وجزم به في " عيون المسائل " كبيض ما لا يؤكل ، وعلى الأول : لا فرق في بيعه مفردا أو مع الدود ( والنحل منفردا ) لأنه حيوان طاهر يخرج من بطونه شراب فيه منافع للناس ، فجاز بيعه كبهيمة الأنعام ( وفي كواراته ) لإمكان مشاهدته بفتح رأسها ، وقال القاضي : لا يجوز بيعها فيها ؛ لأن بعضها غير مرئي ، وهو أميرها ، وأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعا ، وهو مجهول ، والأول المذهب ؛ لأن خفاء البعض لا يمنع الصحة كالصبرة ، وكما لو كان المبيع في وعاء لا يشاهد إلا ظاهره ، والعسل يدخل تبعا كأساسات الحيطان ، فإن لم تمكن مشاهدة النحل لكونه [ ص: 10 ] مستورا بالأقراص ، ولم يعرف لم يجز بيعه لجهالته ، ذكره في " المغني " ، و " الشرح " ( ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد ) كالفهد والصقر ونحوهما ( في إحدى الروايتين ) لما في الصحيح أن امرأة دخلت النار في هرة لها حبستها والأصل في اللام الملك ، ولأنه حيوان مباح نفعه واقتناؤه مطلقا أشبه البغل ، والباقي بالقياس عليه ، ولأنه لا وعيد في جنسه فجاز بيعه ، وعلى هذا في جواز بيع فرخه وبيضه وجهان قوله يصلح للصيد يحتمل حالا أي : تكون معلمة ، وبه صرح الخرقي فظاهره لا يصح بيعها قبل التعليم ، ويحتمل مآلا ؛ أي : يقبله كالجحش الصغير فإن لم يقبل الفيل التعليم لم يجز كأسد وذئب ودب ( إلا الكلب ) لا يجوز بيعه - رواية واحدة - وكذا آلة لهو وخمر ، ولو كانا ذميين ذكره الأزجي عن الأصحاب ( اختارها الخرقي ) والمؤلف ، وجزم بها في " الوجيز " ( والأخرى لا يجوز ، اختارها أبو بكر ) وابن أبي موسى .

أما الهر فلما روى جابر أنه سئل عن ثمنه فقال زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه . رواه مسلم وعنه قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن السنور رواه أبو داود .

ويمكن حمله على غير المملوك منها ، أو على ما لا نفع فيه ، أو على المتوحش ، أو كان ذلك في الابتداء لما كان محكوما بنجاستها ، ثم لما حكم بطهارة سؤره حل ثمنه ، قال الزركشي : وكلها محامل ودعوى لا دليل عليها .

وأما الفيل وسباع البهائم فلأنها نجسة كالكلب ، وأجيب بالفرق بأنه يجوز اقتناؤها مطلقا بخلاف الكلب ، فإن جوازه مختص بأحد أمور ثلاثة مع أن اقتناءه للحاجة بخلاف ما ذكر ، وأطلقهما في " الفروع " كـ " المحرر " .

[ ص: 11 ] ( ويجوز بيع العبد المرتد ) لحصول النفع به إلى وقت قتله وربما رجع إلى الإسلام ، فيحصل كمال النفع ، ولأنه يمكنه إزالة المانع بخلاف الجاني ( والمريض ) بغير خلاف نعلمه قاله في " الشرح " وقيل : غير مأيوس ، والمعتبر الأول ؛ لأن خشية الهلاك لا تمنع الصحة كالمرتد ( وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ، ولبن الآدميات وجهان ) أصحهما وهو المنصوص : يجوز بيع العبد الجاني ، لأنه حق ثبت بغير رضى سيده ، فلم يمنع بيعه كالدين ، والثاني : لا يصح ؛ لأنه تعلق برقبته حق آدمي فمنع جواز بيعه كالرهن ، والأول أولى ؛ لأنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداءه من غيره ، فلم يمنع البيع كالزكاة ، وفارق الرهن من حيث إنه حق متعين فيه لا يملك سيده إبداله ثبت الحق فيه برضاه وثيقة للدين ، فعلى هذا لا فرق بين أن تكون الجناية عمدا أو خطأ على النفس أو ما دونها ، وظاهره أن الخلاف جار فيه ، ولو اشتراه المجني عليه .

الثانية : القاتل في المحاربة فإن تاب قبل القدرة عليه فهو كالحربي ، وإن لم يتب حتى قدر عليه ، وهو المراد بقولهم : وفي المتحتم قتله ؛ وجهان كذا في " المحرر " و " الفروع " أحدهما : وهو قول أبي الخطاب ، وصححه في " المغني " ، و " الشرح " ، وجزم به في " الوجيز " أنه يجوز بيعه ؛ لأنه ينتفع به إلى حين قتله ويعتقه فيجر ولاء ولده فجاز كالمريض ، والثاني : وهو قول القاضي لا لأنه لا نفع فيه لكونه متحتم القتل أشبه الميتات ، والفرق ظاهر ؛ لأنه لا ينتفع بها أصلا بخلافه ؛ لأنه يمكن زوال ما ثبت من الرجوع عن الإقرار ، أو الرجوع من الشهود .

[ ص: 12 ] الثالثة : ظاهر كلام الخرقي ، واختاره ابن حامد وصححه في " الشرح " وغيره ، وجزم به في " الوجيز " أنه يصح بيع لبن الآدمية المنفصل منها ، لأنه طاهر منتفع به كلبن الشاة ، ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر أشبه المنافع ، والثاني : لا يجوز قدمه في " المحرر " ؛ لأنه مائع خرج من آدمية كالعرق أو لأنه من الآدمي ، فلم يجز بيعه كسائر أجزائه ، وجوابه أن العرق لا نفع فيه بدليل أنه لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها ، وحرم بيع العضو المقطوع ، لأنه لا نفع فيه وقيل يجوز من الأمة ؛ لأن بيعها جائز ، فكذا لبنها كسائر أجزائها دون الحرة ، لكن قال أحمد : أكره للمرأة بيع لبنها ، واحتج ابن شهاب وغيره بأن الصحابة قضوا فيمن غر بأمة بضمان الأولاد ، ولو كان للبن قيمة لذكروه .

فرع : المنذور عتقه - قال ابن نصر الله : - نذر تبرر - الأشهر لا يصح بيعه ؛ لأن عتقه وجب بالنذر ، فلا يجوز إبطاله ببيعه كالهدية المعينة .

( وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله روايتان ) أشهرهما أنه لا يجوز بيعه قال أحمد : لا نعلم في بيع المصحف رخصة ، وجزم به في " الوجيز " قال ابن عمر : وددت أن الأيدي تقطع في بيعها ، ولأن تعظيمه واجب وفي بيعه ابتذال له وترك لتعظيمه ، فلم يجز ، والثانية : يجوز روي عن الحسن ، والحكم ، لأنه ينتفع به أشبه كتب العلم ، وفي ثالثة يكره ؛ لأن ابن عمر ، وابن عباس وأبا موسى كرهوا بيعه ، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان كالإجماع ، وعلى الأولى : يقطع بسرقته ، ولا يباع في دين ، ولو وصى ببيعه [ ص: 13 ] نص عليه ، ويلزم بذله لحاجة في الأشهر ، ويكره شراؤه ، وإبداله في رواية ؛ لأنه وسيلة إلى البيع المتضمن إذلال المصحف ، ولا يكره في أخرى قدمها في " المحرر " ، وجزم بها في " الوجيز " ؛ لأنه استنقاذ له كاستنقاذ الأسير المسلم ، وفارق البيع ؛ لأنه إخراج له عن ملكه ، وفي " النهاية " لا يصح بيع المصحف ولا شراؤه ولا إبداله ؛ لأن جميع ذلك إذلال ، والمصحف محترم فتنافيا ، وفارق الشراء هنا شراء الأسير ؛ لأن شراءه تدعو الحاجة إليه بخلاف المصحف ، وظهر منه أنه لا يصح بيعه لكافر ، لأنه إذا نهي عن المسافرة به إلى أرضهم مخافة أن تناله أيديهم فهذا أولى ، وحكم إجارته كبيعه ، لأنها بيع منفعته ويجوز وقفه وهبته ، والوصية به ذكره القاضي واحتج بنصوص أحمد ، وظاهره جواز بيع كتب العلم ، ونقل أبو طالب لا تباع .

مسائل : الأولى : يجوز نسخه بأجرة ، واحتج بقول ابن عباس ففيه لمحدث بلا حمل ولا مس روايتان ، وكذا كافر قال أبو بكر : لا يختلف قول أبي عبد الله أن المصاحف تكتبها النصارى على ما روي عن ابن عباس ، ويأخذ الأجرة من كتبها من المسلمين ، وفي " النهاية " يمنع ، وهو ظاهر .

الثانية : يصح شراء كتب زندقة ونحوها ليتلفها لا خمر ليريقها ؛ لأن في الكتب مالية الورق قال ابن عقيل : يبطل بآلة اللهو ، وسقط حكم مالية الخشب .

الثالثة : يجوز بيع طير لقصد صوته في قول جماعة زاد الشيخ تقي الدين إن جاز حبسه ، وفيه احتمالان لابن عقيل ، وفي " الموجز " لا تصح إجارة ما قصد صوته كديك وقمري .

[ ص: 14 ] ( ولا يجوز بيع الحشرات ) لأنه لا منفعة فيها ويستثنى منه علق لمص دم وديدان لصيد سمك ، وما يصاد عليه كبومة شباشا في الأشهر ( والميتة ) لقول جابر سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة يقول : إن الله حرم بيع الميتة والخمر والأصنام متفق عليه ، ويستثنى منها الحوت والجراد ( ولا شيء منها ) لأن ما لا يجوز بيع كله لا يجوز بيع بعضه كالخمر ( ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد ) كالأسد والذئب ؛ لأنه لا نفع فيها كالحشرات ( ولا الكلب ) لما روى ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب متفق عليه ، وفي لفظ قال : ثمن الكلب خبيث رواه مسلم وقد روى البيهقي بإسناد جيد عن أبي هريرة مرفوعا لا يحل ثمن الكلب ولأنه حيوان نهي عن اقتنائه في غير حال الحاجة إليه ، أو نجس العين كالخنزير ، وظاهره ، ولو كان معلما صرح به الخرقي ، وإنما نص عليه ثانيا ؛ لأن بعض العلماء أجاز بيعه ومال إليه بعض أصحابنا ؛ لأن في رواية أبي هريرة إلا كلب صيد وأجيب بضعفه قاله البيهقي وغيره ( ولا السرجين النجس ) لأنه مجمع على نجاسته ، فلم يجز بيعه كالميتة ، وفيه تخريج من دهن نجس ، قال منها سألت أحمد عن السلف في البعر والسرجين قال : لا بأس . وأطلق ابن رزين في بيع نجاسة قولين ، وظاهره أنه يجوز بيع الطاهر منها ( ولا الأدهان النجسة ) أي : المتنجسة في ظاهر كلام أحمد للأمر بإراقته ، ولقوله عليه السلام : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ولأنها نجسة ، فلم يجز بيعها كشحم الميتة ، وعلى قول أبي الخطاب يجوز بيع ما يطهر منها بالغسل كالثوب النجس ، وجوابه بأن القصد من الدهن غالبا هو الأكل ، وقد زال وتعظم المشقة بتطهيره بخلاف [ ص: 15 ] الثوب النجس ، فإنه يجوز لبسه في غير الصلاة ، ولا تعظم المشقة بتطهيره ، والأولى أن فيه نهيا خاصا فهو غير مقدور على تسليمه شرعا ( وعنه يجوز بيعها لكافر يعلم نجاستها ) لأنه يعتقد حل ذلك ويستبيح أكله ، قال ابن المنجا : واشترط الكفر لأجل الاعتقاد المجوز ، والعلم بنجاستها المراد به اعتقاد الطهارة ؛ لأن نفس العلم بالنجاسة ليس شرطا في بيع الثوب النجس ، فكذا هنا وفيه شيء ، وفي " المغني " يجوز أن تدفع إلى كافر في فكاك مسلم ويعلم بنجاسته ، لأنه ليس ببيع في الحقيقة ، وإنما هو استنقاذ المسلم به ( وفي جواز الاستصباح بها روايتان ) كذا في " المحرر " ، و " الفروع " إحداهما : لا ؛ وجزم بها في " الوجيز " ؛ لأنه عليه السلام نهى عن قربانه فيدخل فيه الاستصباح وغيره ، ولأنه دهن نجس ، فلم يجز الاستصباح به كشحم الميتة ، والثانية : يباح ؛ روي عن ابن عمر ، واختاره الخرقي ، لأنه أمكن الانتفاع به من غير ضرر أشبه الانتفاع بالجلد اليابس ، فعلى هذا ينتفع به على وجه لا يمسه بيده ، ولعل المراد في غير المساجد ؛ لأنه يؤدي إلى تنجيسها لا نجس العين كالكلب والخنزير ( ويخرج على ذلك جواز بيعها ) كذا ذكره أبو الخطاب ، لأنه يصير منتفعا به كالبغل والحمار .

فرع : لا يجوز بيع سم قاتل ، سواء كان من الأفاعي أو النبات ، وقيل يقتل به مسلما .

التالي السابق


الخدمات العلمية