صفحة جزء
[ ص: 81 ] فصل

الرابع : خيار التدليس : ما يزيد به الثمن كتصرية اللبن في الضرع ، وتحمير وجه الجارية وتسويد شعرها وتجعيده ، وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها ، فهذا يثبت للمشتري خيار الرد ، ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعا من تمر ، فإن لم يجد التمر فقيمته في موضعه ، سواء كانت ناقة أو بقرة أو شاة ، فإن كان اللبن بحالة لم يتغير رده وأجزأه ، ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر ، ومتى علم التصرية فله الرد ، وقال القاضي : ليس له ردها إلا بعد ثلاث ، وإن صار لبنها عادة لم يكن له الرد في قياس قوله ، وإذا اشترى أمة متزوجة فطلقها الزوج لم يملك الرد ، وإن كانت التصرية بهيمة الأنعام فلا رد له في أحد الوجهين ، وفي الآخر : له الرد ، ولا يلزمه بدل اللبن ، ولا يحل للبائع تدليس سلعته ، ولا كتمان عيبها ، فإن فعل فالبيع صحيح ، وقال أبو بكر : إن دلس العيب فالبيع باطل ، قيل له : فما تقول في التصرية ؛ فلم يذكر جوابا .


فصل

( الرابع : خيار التدليس ) قال الجوهري : هو كتمان العيب في السلعة عن المشتري ، والمراد هنا ( ما يزيد به الثمن ) وإن لم يكن عيبا ( كتصرية اللبن في الضرع ) التصرية مصدر صري يصرى كعلي يعلى ، وصرى يصري كرمى يرمي ، وأصلها عند الفقهاء أن يجمع اللبن في الضرع اليومين والثلاثة حتى يعظم فيظن المشتري أن ذلك لكثرة اللبن وإذن هي المصراة ، والمحفلة قال البخاري : أصل التصرية حبس الماء يقال صريت الماء ، واختلف في معناها لغة فقال الشافعي هي أن يربط أخلاف الناقة والشاة اليومين والثلاثة فيزيده المشتري في ثمنها ، وقال أبو عبيد هي الناقة أو البقرة أو الشاة يصرى اللبن في ضرعها أي : يجمع ويحبس قال : ولو كانت من الربط لقيل فيها : مصرورة ، وإنما جاءت مصراة قال الخطابي : هو حسن ، وقول الشافعي صحيح ( وتحمير وجه الجارية وتسويد شعرها وتجعيده ) يقال شعر جعد أي : بين الجعودة ، وهو ضد السبط ( وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها فهذا يثبت للمشتري خيار الرد ) أو الإمساك في قول أكثر العلماء لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر متفق عليه ، ولأنه تدليس غر المشتري ، فكان له الخيار كالنجش ، والأصح ولو حصل بغير قصد ، وظاهره إن دلسه بما لا يختلف به الثمن كتبييض الشعر وتسبيطه وتسويد كف عبد أو ثوبه وعلف شاة لا خيار للمشتري ؛ لأنه [ ص: 82 ] لا ضرر عليه ، وقيل : كالأول ، وظاهره أنه لا أرش مع الإمساك ، وهو المذهب ؛ لأن الشارع لم يجعل له فيها أرشا بل خيره بين الإمساك والرد مع صاع تمر ، وفي " التنبيه " و " المبهج " ، و " الترغيب " ومال إليه صاحب " الروضة " له الإمساك مع الأرش ، ونقله ابن هانئ وغيره كالعيب ( ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعا من تمر ) سليم ، ولو زادت قيمته ، نص عليه ، وقيل : أو قمح لوروده في بعض الألفاظ ، وهذا إن حلبها ، فلو علم أنها مصراة قبل الحلب ببينة أو إقرار فلا ؛ لأنه لا وجود للبدل مع وجود المبدل ( فإن لم يجد التمر فقيمته ) أي : التمر ؛ لأن من وجب عليه شيء فعجز عنه رجع إلى بدله ، وبدل المثل عند إعوازه هو القيمة ( في موضعه ) أي : موضع العقد ؛ لأنه بمنزلة عين أتلفها فتجب عليه قيمتها ، قاله في " المغني " و " الشرح " ( سواء كانت ) المصراة ( ناقة أو بقرة أو شاة ) لعموم قوله عليه السلام : من اشترى مصراة فهو بالخيار رواه البخاري ، وقال داود : لا تثبت في مصراة البقر لحديث أبي هريرة ، وجوابه بأن الحكم ثبت فيها بطريق التنبيه ؛ لأن لبنها أغزر وأكثر .

فرع : لو اشترى مصراتين ، أو أكثر في عقد فردهن رد مع كل مصراة صاعا من تمر ، وقاله الشافعي ، وقيل : لا يتعدد بل في الجميع صاع .

( فإن كان اللبن بحاله لم يتغير رده وأجزأه ) اختاره القاضي ، وجزم به في " الوجيز " ، وقدمه في " الفروع " ؛ لأن التمر إنما وجب عوضا عن اللبن ، فإذا رد الأصل وجب أن يجزئ كسائر الأصول مع إبدالها ، وكما لو ردها به قبل الحلب ( ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر ) قدمه في " المحرر " ؛ لأن إطلاق الخبر [ ص: 83 ] يدل عليه ، ولأن اللبن في الضرع أحفظ له أما إذا تغير ، فلا يجزئه وجها واحدا ؛ لأنه نقص في يده بالحموضة فهو كما لو أتلفه ، وقيل : يجزئه ، وإن تغير ، ولا شيء عليه نظرا إلى أن البدل إيجابه منوط بعدم المبدل ، والمبدل موجود ، وإن حصل نقص فتدليس من البائع ، وصرح في " الكافي " بأن الخلاف مع التغير .

فرع : إذا رضي بها فأمسكها ، ثم اطلع على عيب ردها به ؛ لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد بعيب آخر ( ومتى علم التصرية فله الرد ) وقاله أبو الخطاب ، لأنه علم بسبب الرد ، فكان له حينئذ أشبه ما لو علم بالعيب ( وقال القاضي : ليس له ردها إلا بعد ثلاث ) أي : ثلاثة أيام ، وهذا ظاهر كلام أحمد ، وجزم به في " الوجيز " ؛ لأن اللبن يختلف باختلاف المكان وتغير العلف ، فإذا مضت الثلاثة بانت التصرية وثبت الخيار على الفور ، فعلى هذا ليس له ردها قبل مضيها ، ولا إمساكها بعدها ، وقيل : يخير مطلقا ما لم يرض كبقية التدليس ، وقدره ابن أبي موسى ، والمجد والجد بثلاثة أيام لرواية مسلم من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فعلى هذا له الخيار في الثلاثة أيام إلى انقضائها عكس ما قاله القاضي ، وابتداء المدة بتبين التصرية ، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى ، وكلامه في " الكافي " موهم أن ابتداءها على قول ابن أبي موسى من حين البيع ، وليس كذلك بل على قول القاضي .

( وإن صار لبنها عادة ) أو زال العيب ( لم يكن له الرد ) لأن الخيار الضرر بالعيب ، وقد زال الحكم بزوال علته ( في قياس قوله ) أي : قول الإمام ( وإذا اشترى أمة مزوجة وطلقها الزوج لم يملك ) المشتري ( الرد ) لما [ ص: 84 ] ذكرناه ، قال في " الفصول " : لا رجعيا ، وإن في طلاق بائن فيه عدة ، احتمالين ( وإن كانت التصرية بهيمة الأنعام ) كالأمة والأتان ( فلا رد له في أحد الوجهين ) لأن ذلك لا يعتاض عنه في العادة ، ولا يقصد قصد لبن بهيمة الأنعام ( وفي الآخر له الرد ) اختاره ابن عقيل ، وقدمه في " المحرر " وصححه في " الفروع " لعموم ما سبق ، ولأن الثمن يختلف بذلك ؛ لأن لبن المرأة يراد للارتضاع ويرغب فيها ظئرا ، وكذلك لو اشترط كثرة لبنها ملك الفسخ إذا بانت بخلافه ، ولبن الأتان يراد لولدها ( ولا يلزمه بدل اللبن ) على كل حال ؛ لأنه لا يباع ، ولا يعتاض عنه عادة ( ولا يحل للبائع تدليس سلعته ، ولا كتمان عيبها ) ذكره الترمذي عن العلماء لقوله عليه السلام : من غشنا فليس منا ونهى عن التصرية ، وقوله : المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا إلا بينه وقال : من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت من الله ، ولم تزل الملائكة تلعنه رواهما ابن ماجه ، وفي " الصحيح " فإن صدقا وبينا بورك لهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما وذكر أبو الخطاب يكره كتمان العيب وحكاه في " التبصرة " ، وعلى الأول : ( فإن فعل فالبيع صحيح ) على المذهب لحديث المصراة ، فإنه عليه السلام صححه مع نهيه عنه ( وقال أبو بكر : إن دلس العيب فالبيع باطل ) ونقله حنبل عن الإمام ؛ لأنه منهي عنه ، والنهي يقتضي الفساد ، وكذا لو أعلمه به ، ولم يعلما قدر غشه ، ذكره الشيخ تقي الدين ، وأنه يجوز عقابه بإتلافه ، والتصدق به ، وقال أفتى به طائفة من أصحابنا ( قيل له ) [ ص: 85 ] أي : لأبي بكر ( فما تقول في التصرية ؛ فلم يذكر جوابا ) لأن التصرية إلزام صحيح ليس عنه جواب ، فدل على رجوعه ، قاله في " الشرح " .

فائدة : لم يقل أبو حنيفة بحديث المصراة وروي عن مالك ، لأنه حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة ، إذ الأصل أن ضمان المثليات بالمثل ، والمتقومات بالقيمة ، والتمر ليس بمثل ، ولا قيمة للبن ، وأن يكون المضمون بقدر الضمان بقيمة التالف ، وذلك يختلف وهنا قدر بالصاع مطلقا ، ولأن اللبن إن كان موجودا عند العقد ، فقد ذهب جزء المعقود عليه من أصل الخلقة ، وذلك مانع من الرد ، وإن حدث بعد الشراء ، فقد حدث على ملك المشتري ، فلا يضمنه وإن كان مختلطا ، فما كان موجودا عند العقد منع الرد ، وما كان حادثا لم يجب ، ولأنه يلزم من القول بظاهره الجمع بين الثمن ، والمثمن للبائع إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر ، وجواب الأول : أن الضمان لا ينحصر فيما ذكرتموه ، فإن الحر يضمن بالإبل وليست بمثل ولا قيمة ، والجنين بالغرة ، وعن الثاني : بأن الضمان لا يتقدر بذلك كالموضحة ، فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر ، وعن الثالث : أن النقص حصل لاستعلام العيب ، فلا يمنع ، وعن الرابع : بأنه ورد على العادة ، والعادة ؛ لا تباع شاة بصاع ، والأولى أن التمر بدل اللبن لا الشاة ، فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض .

التالي السابق


الخدمات العلمية