صفحة جزء
[ ص: 204 ] باب القرض وهو من المرافق المندوب إليها ويصح في كل عين يجوز بيعها إلا بني آدم ، والجواهر ونحوها مما لا يصح السلم فيه في أحد الوجهين فيهما ويثبت الملك فيه بالقبض ، فلا يملك المقرض استرجاعه وله طلب بدله وإن رده المقترض عليه لزمه قبوله ما لم يتغيب ، أو يكن فلوسا ، أو مكسرة فيحرمها السلطان فتكون له القيمة وقت القرض ويجب رد المثل في المكيل ، والموزون ، والقيمة في الجواهر ونحوها ، وفيما سوى ذلك وجهان ويثبت العوض في الذمة حالا ، وإن أجله ويجوز شرط الرهن ، والضمين فيه .


باب القرض

القرض مصدر قرض الشيء يقرضه بكسر الراء إذا قطعه ، والقرض اسم مصدر بمعنى الاقتراض ، وهو بفتح القاف وحكي كسرها ، وهو في اللغة القطع ومنه سمي المقراض ، وهو دفع المال إلى الغير لينتفع به ويرد بدله ، وهو نوع من المعاملات مستثنى عن قياس المعاوضات لمصلحة لاحظها الشارع رفقا بالمحاويج ، والأصل فيه قوله عليه السلام في حديث ابن مسعود : ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة . وروى أبو رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرا . وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر فقلت : يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة ؛ ! قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة . رواه ابن ماجه ، والأول . وأجمع المسلمون على جوازه ( وهو من المرافق ) واحده مرفق بفتح الميم مع كسر الفاء وفتحها ، وهو ما ارتفقت به ، وانتفعت ( المندوب إليها ) في حق المقرض لقوله عليه السلام : من كشف عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة . قال أبو الدرداء : لأن أقرض دينارين ، ثم يردان ، ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما ، ولأن فيه تفريجا عن غيره وقضاء لحاجته فكان مندوبا [ ص: 205 ] إليه كالصدقة ، وليس بواجب قال أحمد : لا إثم على من سئل ، فلم يعط ؛ لأنه من المعروف ، وهو مباح للمقترض ، وليس مكروها قال أحمد : ليس القرض من المسألة أي : لا يكره لفعله عليه السلام ، ولو كان مكروها كان أبعد الناس منه ومن أراد أن يستقرض فليعلم المقرض بحاله ، ولا يغره من نفسه ، إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذر رد مثله ، وقال أحمد إذا اقترض لغيره ، ولم يعلمه بحاله لم يعجبني قال : وما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه .

تنبيه : يشترط معرفة قدره ووصفه ، وأن يكون المقرض ممن يصح تبرعه كالبيع وحكمه في الإيجاب ، والقبول ، كما سبق ويصح بلفظه وبلفظ السلف لورود الشرع بهما وبكل لفظ يؤدي معناهما نحو ملكتك هذا على أن ترد بدله ، أو توجد قرينة تدل عليه ، وإلا فهو هبة ، فإن اختلفا فيه قبل قول الموهوب له ؛ لأن الظاهر معه ( ويصح في كل عين يجوز بيعها ) مكيلا كان ، أو موزونا ، أو غيرهما ؛ لأنه عليه السلام استسلف بكرا ، ولأن ما ثبت سلما يملك بالبيع ويضبط بالوصف فجاز قرضه كالمكيل ، ولأن المقصود يحصل به لكونه ينتفع به ويتمكن من بيعه ، فدل على أن ما لا يثبت فيه الذمة سلما كالحنطة المختلطة بالشعير لا يجوز وكقرض المنافع ( إلا بني آدم ، والجواهر ونحوها مما لا يصح السلم فيه في أحد الوجهين فيهما ) أي : لا يصح فيهما أما بنو آدم فقال أحمد : أكره قرضهم فيحتمل التحريم ، فلا يصح قرضهم ، اختاره القاضي ، وجزم به في " الوجيز " ؛ لأنه لم ينقل ، ولا هو من المرافق ، ولأنه يفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها ، ثم يردها ويحتمل كراهة التنزيه ، فيصح قرضهم ، وهو [ ص: 206 ] قول ابن جريج ، والمزني ، لأنه مال يثبت في الذمة سلما ، فصح قرضه كسائر البهائم ، وقيل : قرض العبد لا الأمة إلا أن يقرضهن من محارمهن ؛ لأن الملك بالقرض ضعيف لكونه لا يمنعها من ردها على المقرض ، فلا يستباح به الوطء كالملك في مدة الخيار ورد بأنه عقد ناقل فاستوى فيه العبد ، والأمة ، ولا نسلم ضعف الملك فيه ، فإنه مطلق كسائر التصرفات بخلاف الملك زمن الخيار ، وأما الجواهر ونحوها ، فلا يصح قرضها في وجه ؛ لأنه لا ينضبط بالصفة ، فلا يمكن رد المثل ، ومقتضى القرض رد المثل ، والثاني : بلى ، وهو اختيار القاضي وظاهر " الوجيز " ؛ لأن الجواهر ، وما لا مثل له تجب فيه القيمة وأطلقهما في " المحرر " ، و " الفروع " كالمقنع .

فرع : سأله أبو الصقر : عين بين أقوام لهم نوب في أيام يقترض الماء من نوبة صاحب الخميس ليسقي به ليرد عليه يوم السبت قال : إذا كان محدودا يعرف كم يخرج منه ، فلا بأس ، وإلا أكرهه ( ويثبت الملك فيه بالقبض ) ؛ لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض ، فوقف الملك عليه كالهبة ويتم بالقبول وله الشراء به من مقرضه نقله مهنا ، وفي " الفروع " ويلزم مكيل وموزون بقبضه ، وفي غيره روايتان ( فلا يملك المقرض استرجاعه ) ؛ لأنه قد لزم من جهته ، فلم يملك الرجوع فيه كالمبيع لكونه أزال ملكه عنه بعقد لازم من غير خيار ( وله طلب بدله ) أي : في الحال ؛ لأن القرض يثبت في الذمة حالا فكان له طلبه كسائر الديون الحالة ، ولأنه سبب يوجب رد المثل ، أو القيمة فكان حالا كالإتلاف ، فعلى هذا لو أقرضه تفاريقا ، ثم طالبه بها جملة كان له ذلك [ ص: 207 ] ؛ لأن الجميع حال وكالبيع ( وإن رده المقترض عليه ) بعينه ( لزمه قبوله ) ؛ لأنه رده على صفة حقه فلزمه قبوله كالسلم وسواء تغير سعره أو لا ، وظاهره لا فرق بين أن يكون ما اقترضه بدله من جنسه ، أو لا ، وهو قول في المذهب ، والمعروف فيه أنه يلزمه قبول المثلي وذلك بشرطين أحدهما : ( ما لم يتغيب ) كحنطة ابتلت ، أو عفنت ؛ لأن عليه في قبوله ضررا ؛ لأنه دون حقه . الثاني : ما لم يتغير ونبه عليه بقوله : ( أو تكن فلوسا ، أو مكسرة فيحرمها السلطان ) أي : يترك المعاملة بها ؛ لأنه كالعيب ، فلا يلزمه قبولها ( فتكون له القيمة ) من غير جنسه إن جرى فيه ربا الفضل ( وقت القرض ) سواء كانت باقية ، أو استهلكها ، نص عليه في الدراهم المكسرة فقال : يقومها كم تساوي يوم أخذها ، ثم يعطيه وسواء نقصت قيمتها قليلا ، أو كثيرا ، وقيل : له القيمة يوم الخصومة ، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل ، وذكر أبو بكر في التنبيه ، وقدمه في " الرعاية " أن له قيمتها يوم فسدت وتركت المعاملة بها ؛ لأنه كان يلزمه رد مثلها ما دامت نافقة فلما فسدت انتقل إلى قيمتها ، كما لو عدم المثل ، وقال القاضي : إن نفقت في بعض المواضع لزمه أخذها ، وإن ترك الناس المعاملة بها فله قيمتها ، وقيل : إن رخصت فله القيمة ، ونصه - وجزم به في " الوجيز " - إنه يرد مثلها إذا رخصت .

تنبيه : المغشوشة ، إذ خرمها السلطان حكمها كذلك ، والخلاف جار فيما إذا كانت ثمنا ، وظاهر " الفروع " فيه قولان : له القيمة وقت العقد ، كما هو المنصوص ، أو يوم فسدت ، وإن شرط رده بعينه ، أو باع درهما بدرهم هو دفعه إليه ، لم يصح [ ص: 208 ] ( ويجب رد المثل في المكيل ، والموزون ) إجماعا ؛ لأنه يضمن في الغصب ، والإتلاف بمثله ، فكذا هنا مع أن المثل أقرب شبها بالقرض من القيمة ، فإن أعوز المثل لزمه قيمته يوم الإعواز ؛ لأنها حينئذ تثبت في الذمة ( والقيمة في الجواهر ونحوها ) إذا قيل بجواز قرضها ؛ لأنها من ذوات القيم ، ولا مثل لها لكونها لا تنضبط بالصفة وتكون القيمة يوم قبضها ( وفيما سوى ذلك وجهان ) كذا في " المحرر " ، و " الفروع " أحدهما : يرد القيمة ، وهو ظاهر " الوجيز " ؛ لأن ما أوجب المثل في المثليات أوجب القيمة فيما لا مثل له كالإتلاف وتكون القيمة يوم القرض . الثاني : يجب رد مثله لفعله عليه السلام ، ولأن ما ثبت في السلم ثبت في القرض كالمثلي بخلاف الإتلاف ؛ لأن القيمة فيه أخصر ، ولا مسامحة فيه ويعتبر في مثل صفاته تقريبا ، فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم تعذره ، لكن لو اقترض خبزا ، أو خميرا عددا ورد عددا بلا قصد زيادة جاز ، نص عليه ، وعنه : لا ، كما لو أقرضه صغيرا يقصد أن يعطيه كبيرا ( ويثبت العوض في الذمة ) ؛ لأنه بدل مقبوض أشبه عوض ثمن المبيع إذا كان مستحقا ( حالا ، وإن أجله ) ؛ لأنه عقد منع فيه من التفاضل فمنع الأجل فيه كالصرف ، إذ الحال لا يتأجل بالتأجيل ، وهو عدة وتبرع لا يلزم الوفاء به قال أحمد : القرض حال وينبغي أن يفي بوعده وخالف الشيخ تقي الدين أنه لا يحرم تأجيله ، وذكره وجها لقوله عليه السلام : المسلمون عند شروطهم . وكل دين حال كالقرض .

( ويجوز شرط الرهن ، والضمين فيه ) ؛ لأنه عليه السلام استقرض من يهودي شعيرا ورهنه درعه . متفق عليه ، ولأن ما جاز فعله جاز شرطه ، ولأنه يراد [ ص: 209 ] للتوثق بالحق ، وليس ذلك بزيادة ، والضمين كالرهن ، فلو عينهما وجاء بغيرهما لم يلزم البائع قبوله ، وإن كان ما أتى به خيرا من المشروط وحينئذ يخير بين فسخ العقد وبين إمضائه بلا رهن ولا كفيل ، وهل له الأرش إلحاقا له بالعيوب ، وذكر المجد أنه المذهب ، أو لا أرش إلحاقا له بالتدليس ، وهو ظاهر الأكثر ؛ على قولين .

التالي السابق


الخدمات العلمية