صفحة جزء
فصل يصح الصلح عن القصاص بديات وبكل ما يثبت مهرا ولو صالح سارقا ليطلقه ، أو شاهدا ليكتم شهادته ، أو شفيعا عن شفعته ، أو مقذوفا عن حده ، لم يصح الصلح وتسقط الشفعة ، وفي الحد وجهان ، وإن صالحه على أن يجري على أرضه أو سطحه ماء معلوما ، صح ويجوز أن يشتري ممرا في دار وموضعا يفتحه بابا وبقعة يحفرها بئرا وعلو بيت يبني عليه بنيانا موصوفا ، فإن كان البيت غير مبني ، لم يجز في أحد الوجهين ، وفي الآخر يجوز إذا وصف العلو ، والسفل ، وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره فطالبه بإزالتها لزمه ذلك ، فإن أبى فله قطعها فإن صالحه عن ذلك بعوض ، لم يجز وإن اتفقا على أن الثمرة له ، أو بينهما جاز ، ولم يلزم .


فصل

هذا شروع في الصلح عما ليس بمال ( يصح الصلح عن القصاص ) ، ولم يفرقوا بين إقرار ، وإنكار قال في " المحرر " : و " المغني " يجوز عن قود وسكنى دار وعيب ، وإن لم يجز بيع ذلك ، لأنه لقطع الخصومة ، وقال في " الفصول " : وإن القود له بدل ، وهو الدية كالمال ، وذكره المجد ، وقال : إن أراد بيعها من الغير ، صح ، ومنه قياس المذهب جوازه ، فإنه بمعنى الصلح بلفظ البيع ، وإنه يتخرج فيه كالإجارة بلفظ البيع ، وإنه صرح به أصحابنا بصحة الصلح عن المجهول بلفظ البيع في صبرة أتلفها جهلا كيلها ، ذكره القاضي ( بديات ) ، لأن الحسن ، والحسين وسعيد بن العاصي بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات فأبى أن يقبلها ، ولأن المال غير متعين ، فلا يقع العوض في مقابلته ( وبكل ما يثبت مهرا ) . قاله الأصحاب ، لأنه يصح إسقاطه فلأن يصح الصلح عليه من باب أولى ، وإن جاوز الدية ، ذكره في " المحرر " ، و " الفروع " وحاصله أنه يصح الصلح عن دم العمد بدون ديته وأكثر إن وجب القود عينا ، أو طلب الولي وقلنا : يجب أحد شيئين ، وفي " الترغيب " لا يصح على جنس الدية إن قيل : موجبه أحد شيئين ، ولم يختر [ ص: 290 ] الولي شيئا إلا بعد تعيين الجنس من إبل ، أو غنم حذارا من الربا ، وظاهر كلامهم يصح حالا ومؤجلا ، وذكره المجد .

فرع : إذا صالح عنه بعبد فخرج مستحقا رجع بقيمته في قول الجميع ، وكذا إن خرج حرا ، ومع جهالته ، كدار ، وشجرة تجب ديته ، أو أرش الجرح ، فإن علما بحريته ، أو كونه مستحقا رجع بالدية لبطلان الصلح بعلمهما ، وإن صالح عن دار ، فبان عوضه مستحقا رجع بها ، وقيل : بقيمته مع الإنكار ، لأن الصلح بيع في الحقيقة بخلاف الصلح عن القصاص ، فإنه ليس ببيع ، وإنما يأخذ عوضا عن القصاص .

( ولو صالح سارقا ليطلقه ، أو شاهدا ليكتم شهادته ، أو شفيعا عن شفعته ، أو مقذوفا عن حده لم يصح الصلح ) ، وفيه أمور .

الأول : إذا صالح سارقه ليطلقه لم يصح ، لأن الرفع إلى السلطان ليس حقا يجوز الاعتياض عنه ، فلم يجز كسائر ما لا حق فيه ، وكذا حكم الزاني ، والشارب .

الثاني : إذا صالح شاهدا ليكتم شهادته لم يصح ، لأن كتمانها حرام لم يصح الاعتياض عنه ويشمل صورا منها أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بحق تلزمه الشهادة به كدين آدمي ، أو حق لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة ومنها أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بالزور فهو حرام ، كما لو صالحه على أن لا يقتله ، ولا يغصب ماله ومنها أن يصالحه على ألا يشهد عليه بما يوجب حد الزنا ، والسرقة ، فلا يجوز الاعتياض في الكل [ ص: 291 ] الثالث : إذا صالح الشفيع عن شفعته لم يصح ، لأنها ثبتت لإزالة الضرر ، فإذا رضي بالعوض تبينا أن لا ضرر ، فلا استحقاق فيبطل العوض لبطلان معوضه . نقل ابن منصور : الشفعة لا تباع ، ولا توهب ( و ) حينئذ ( تسقط الشفعة ) جزم به في " الوجيز " لما قلناه ، وفيه وجه لا تسقط ، لأن فيها حقا لله تعالى وأطلقهما في " المحرر " ، و " الفروع " .

الرابع : إذا صالح مقذوفا عن حده لم يجز أخذ العوض عنه كحد الزنا ، وإن قلنا هو له فليس له الاعتياض عنه ، لأنه ليس بمال ، ولا يئول إليه بخلاف القصاص ( وفي ) سقوط ( الحد ) به ( وجهان ) مبنيان على أن حد القذف هل هو حق لله تعالى ، فلا يسقط ، أو له فيسقط بصلحه وإسقاطه كالقصاص جزم به في " الوجيز " .

فرع : لا يصح الصلح بعوض عن خيار ( وإن صالحه على أن يجري على أرضه ، أو سطحه ماء معلوما ، صح ) ، لأن الحاجة داعية إلى ذلك واشترط العلم به ، لأنه يختلف ضرره بكثرته وقلته ، وطريق العلم إما بمشاهدة ، وإما بمعرفة مساحته فيقدر في الأرض بالفدان ، وفي السطح بصغره ، أو كبره ويشترط معرفة الموضع الذي يخرج منه إلى السطح ، لأن ذلك يختلف ، فإن كان بعوض مع بقاء ملكه فإجارة ، وإلا فبيع ، ولا يعتبر بيان عمقه ، لأنه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه ، ولا تعيين المدة ، إذ العقد على المنفعة في موضع الحاجة من غير تقدير مدة جائز كالنكاح ، وفي القواعد ليس بإجارة محضة لعدم تقدير المدة بل هو شبيه بالبيع ودل على أنه لا يحدث ساقية في وقف [ ص: 292 ] وذكره القاضي ، وابن عقيل ، لأنه لا يملكها كالمؤجرة ، وجوزه في " المغني " ، لأن الأرض له ويتصرف فيها كيف شاء ما لم ينقل الملك ، فدل أن الباب ، والخوخة ونحوهما لا يجوز في مؤجرة ، وفي موقوفة الخلاف ، أو يجوز قولا واحدا قال في " الفروع " : وهو أولى ، والظاهر أنه لا تعتبر المصلحة وإذن الحاكم ، بل عدم الضرر .

تنبيه : يحرم إجراء مائه في أرض غيره بلا إذنه لتضرره ، أو أرضه وكزرعه في أرض غيره ، وعنه : لا لقول عمر . رواه مالك ، والأول أقيس ، لأنه موافق للأصول ، وقول عمر خالفه محمد بن مسلمة ، فعلى الثانية تعتبر الضرورة ، جزم به في " الشرح " ، وقيل : مع الحاجة ، ولو مع حفر . ونقل أبو الصقر إذا أساح عينا تحت أرض ، فانتهى حفره إلى أرض لرجل ، أو دار فليس له منعه من ظهر الأرض إذا لم يكن عليه مضرة ، وفيه حديث الخشبة .

( ويجوز أن يشتري ممرا في دار وموضعا يفتحه بابا وبقعة يحفرها بئرا ) ، لأن ذلك يجوز بيعها وإجارتها فجاز الاعتياض عنها بالصلح كالدرب ، وليس هذا خاصا بالدار ، بل الأملاك كلها كذلك ، ولو غبر ممرا في ملكه لكان [ ص: 293 ] أولى ويشترط أن يكون ذلك معلوما ( و ) يجوز أن يشتري ( علو بيت يبني عليه بنيانا موصوفا ) ، لأنه ملك للبائع فجاز بيعه كالأرض ومعنى " موصوفا " أي : معلوما ، وظاهره أنه لا يجوز أن يحدث ذلك على الوقف قال في " الاختيارات " : وليس لأحد أن يبني على الوقف ما يضر به اتفاقا ، وكذا إن لم يضر به عند الجمهور ( فإن كان البيت غير مبني لم يجز في أحد الوجهين ) ، ذكره القاضي ، وغيره ، لأنه بيع العلو دون القرار ، فلم يجز كالمعدوم ( وفي الآخر يجوز ) جزم به في " المحرر " ، و " الوجيز " ، وصححه في " الفروع " ، لأنه ملك للمصالح فجاز له أخذ العوض عنه كالقرار ، وشرطه ( إذا وصف العلو ، والسفل ) ليكون معلوما ويصح فعل ذلك صلحا أبدا وإجارة مدة معلومة أيضا ( وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره فطالبه بإزالتها ) أي : بإزالة أغصانها ( لزمه ذلك ) ، لأن الهواء تابع للقرار ، فوجب إزالة ما يشغله من ملك غيره كالدابة إذا دخلت ملكه ، وطريقه إما القطع أو ليه إلى ناحية أخرى ، ولا فرق بين أن يكون خاصا به أو له فيه شركة ( فإن أبى فله ) أي : مالك الهواء ( قطعها ) ، ولو عبر بالإزالة كغيره لكان أولى ، لأن ذلك إخلاء ملكه الواجب إخلاؤه ، وظاهره أنه لا يفتقر إلى حكم بذلك ، وصرح به الأصحاب ، لأنه أمكنه إزالتها بلا إتلاف ، ولا قطع من غير سفه ، ولا غرامة ، فلم يجز له إتلافها كالبهيمة ، فإن أتلفها في هذه الحال غرمها ، فإن لم يمكنه إزالتها إلا بالإتلاف فله ذلك ، ولا شيء عليه ، لكن قيل لأحمد : يقطعه هو ؛ قال : لا يقول لصاحبه حتى يقطع ، ولا يجبر المالك على الإزالة ، لأنه من غير فعله ، فإن تلف بها شيء لم [ ص: 294 ] يضمنه ، قدمه في " الشرح " ، وذكر احتمالا ، وهو وجه : ضده ( فإن صالحه عن ذلك بعوض لم يجز ) . قاله أبو الخطاب ، سواء كان الغصن رطبا أو يابسا ، لأن الرطب يزيد ويتغير ، واليابس ينقص وربما ذهب كله ، وقال القاضي : وجزم به في " الوجيز " إن كان الأغصان رطبة لم يجز الصلح عنها لزيادتها في كل وقت بخلاف اليابسة واشترط القاضي في اليابس أن يكون معتمدا على نفس الحائط ، فإن كان في الهواء فلا ، لأنه تبع للهواء المجرد ، وقال ابن حامد ، وابن عقيل بجوازه مطلقا ، لأن الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الجواز لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض ، فإنه يفتقر إلى العلم به لوجوب التسليم وأيده في " المغني " ، وقال هو اللائق بمذهب أحمد ، لأن الحاجة داعية إلى ذلك لكثرتها في الأملاك المتجاورة ، وفي القطع إتلاف وضرر ، والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر للركوب ( وإن اتفقا على أن الثمرة له ) أي : لمالك الهواء ( أو بينهما جاز ) ، لأن الصلح على الثمرة ، أو بعضها أسهل من القطع . ونقل المروذي واستحق أن أحمد سئل عن ذلك فقال : لا أدري ، قال في " المغني " : فيحتمل الصحة لما روي مرفوعا أيما شجرة ظللت على قوم فهو بالخيار بين قطع ما ظلل ، أو أكل ثمرها ويحتمل عدمها ، وقاله الأكثر ، فإن الثمرة وجوها مجهولان ومن شرط الصلح العلم بالعوض ( ولم يلزم ) ، إذ لزومه يؤدي إلى ضرر مالك الشجرة لتأبد استحقاق الثمرة عليه ، أو إلى ضرر مالك الهواء لتأبد بقاء الأغصان في ملكه [ ص: 295 ] فرع : ثمرة غصن في هواء طريق عام للمسلمين ، ذكره في " المبهج " .

آخر : حكم عروق الشجرة إذا امتدت إلى أرض غيره كالغصن ، سواء أثرت ضررا لتأثيرها في المصانع وطي الآبار وأساسات الحيطان أو لا ، وقيل عنه : إنما يثبت ذلك مع الضرر .

التالي السابق


الخدمات العلمية