صفحة جزء
وهو على ضربين حجر لحق الغير نذكر منه هاهنا الحجر على المفلس ومن لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله ، ولم يحجر عليه من أجله ، فإن أراد سفرا يحل الدين قبل مدته فلغريمه منعه إلا أن يوثقه برهن ، أو كفيل ، وإن كان لا يحل قبله ففي منعه روايتان وإن كان حالا وله مال يفي به لم يحجر عليه ويأمره الحاكم بوفائه ، فإن أبى حبسه فإن أصر على الحبس باع ماله وقضى دينه ، وإن ادعى الإعسار وكان دينه عن عوض كالبيع وأعرض ، أو عرف له مال سابق حبس إلى أن يقيم بينة على نفاذ ماله أو إعساره وهل يحلف معها ؛ على وجهين ، وإن لم يكن كذلك حلف وخلي سبيله ، وإن كان له مال لا يفي بدينه فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم ويستحب إظهاره ، والإشهاد عليه .


( وهو على ضربين حجر لحق الغير ) أي : لغير المحجور عليه كالمفلس ، والمريض ، والزوجة بما زاد على الثلث في تبرع على رواية ، والعبد ، والمكاتب ، والمشتري ماله في البلد ، أو قريب منه بعد تسليمه المبيع ، والراهن ، والمشتري بعد طلب شفيع . وضرب لحقه ، كالصغير ، والمجنون ، والسفيه ( نذكر منه هاهنا الحجر على المفلس ) أي : لحق الغرماء فالمفلس : المعدم ومنه الخبر المشهور : من تعدون المفلس فيكم ؛ قالوا : من لا درهم له ، ولا متاع قال : ليس ذلك المفلس ، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي ، وقد ظلم هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته [ ص: 306 ] فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فرد عليه ، ثم طرح في النار . رواه مسلم بمعناه . فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس ، لأنه عرفهم ولغتهم ، وقوله : ليس ذلك المفلس ، يجوز : لم يرد به نفي الحقيقة بل أراد فلس الآخرة ، لأنه أشد وأعظم حتى إن فلس الدنيا عنده بمنزلة الغنى ، ومنه قولهم أفلس بالحجة إذا عدمها ، وقيل : هو من قولهم ثمر مفلس إذا خرج منه نواه فهو خروج الإنسان من ماله . فحجر الفلس منع حاكم من عليه دين حال يعجز عنه ماله الموجود من التصرف فيه ، والمفلس من لا مال له ، ولا ما يدفع به حاجته ، وعند الفقهاء من دينه أكثر من ماله .

( ومن لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل ) حلول ( أجله ) ، لأنه لا يلزمه أداؤه قبل الأجل ، ومن شرط المطالبة لزوم الأداء ( ولم يحجر عليه من أجله ) ، لأن المطالبة لا تستحق ، فكذا الحجر ( فإن أراد سفرا يحل الدين قبل مدته ) أي : قبل قدومه ( فلغريمه منعه ) ، لأن عليه ضررا في تأخير حقه عن محله ( إلا أن يوثقه برهن ) يجوز ( أو كفيل ) مليء لزوال الضرر إذن ( وإن كان لا يحل قبله ففي منعه روايتان ) إحداهما : له منعه قال في " المغني " : هو ظاهر كلام أحمد ، وقدمه في " المحرر " ، وجزم به في " الوجيز " ، وصححه [ ص: 307 ] في " الفروع " ، لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر ، فملك منعه إلا بوثيقة ، والثانية : لا يملك منعه وهي ظاهر الخرقي ، لأن هذا السفر ليس بأمارة على منع الحق في محله ، فلم يملك منعه منه كالسفر القصير ، والمذهب أنهما في غير جهاد متعين ، زاد في " الفروع " وأمر مخوف ، لأن في ذلك تعريضا لفوات النفس ، فلا يأمن من فوات الحق ، فلو أحرم به لم يملك تحليله ، وقال الشيخ تقي الدين : وله منع عاجز حتى يقيم كفيلا ببدنه ووجهه في " الفروع " ( وإن كان حالا ) ، وهو عاجز عن وفاء بعضه حرم مطالبته ، والحجر عليه وملازمته ( و ) إن كان ( له مال يفي به ) أي : بدينه الحال ( لم يحجر عليه ) لعدم الحاجة إلى ذلك ، لأن الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم في الحال ( ويأمره الحاكم بوفائه ) أي : بعد الطلب ، لأن الغرماء إذا طلبوا ذلك منه تعين عليه لما فيه من فصل القضاء المنتصب له ، والمذهب يجب إذن على الفور ويمهل بقدر ذلك اتفاقا ، لكن إن خاف غريمه منه احتاط بملازمته ، أو كفيل ، أو ترسيم عليه . قاله الشيخ تقي الدين ( فإن أبى حبسه ) لما روى عمرو بن الشريد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته . رواه أحمد ، وأبو داود ، وغيرهما قال أحمد : قال وكيع : عرضه : شكواه ، وعقوبته : حبسه ، وليس لحاكم إخراجه حتى يتبين له أمره ، أو يبرئه غريمه ، فإذا صح عند الحاكم عسرته أخرجه ، ولم يسعه حبسه ، فإن أصر على عدم الوفاء مع القدرة ضرب . ذكره في " المنتخب " ، وغيره قال في " الفصول " ، وغيره : يحبسه ، فإن أبى عزره قال : ويكرر حبسه وتعزيره حتى يقضيه قال الشيخ تقي الدين : لا أعلم فيه نزاعا ، لكن لا يزاد كل يوم على أكثر التعزير إن قيل : يتقدر [ ص: 308 ] فائدة : روى البخاري من حديث أبي موسى الحبس على الدين من الأمور المحدثة وأول من حبس عليه شريح وكان الخصمان يتلازمان قال ابن هبيرة : فأما الحبس الآن على الدين ، فلا أعرف أنه يجوز عند أحد من المسلمين ، وأنا على إزالته حريص ، ورد بأن الحبس عليه مذهب مالك ، والشافعي ، والنعمان ، وأبي عبيد وعبيد الله بن الحسن ، وغيرهم ( فإن أصر ) على الحبس ، ولم يقض الدين ( باع ) الحاكم ( ماله وقضى دينه ) لما روى كعب بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه . رواه الخلال ، والدارقطني من رواية إبراهيم بن معاوية ، وقد ضعف ورواه الحاكم ، وقال على شرطهما ، وظاهره يجب ، نقل حرب : إذا تقاعد بحقوق الناس يباع عليه ويقضى ، وقال الشيخ تقي الدين : لا يلزمه ذلك ، وهو ظاهر ما قدمه في " الفروع " .

فرع : إذا مطله بحقه أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك ، فعلى المماطل ( وإن ادعى الإعسار وكان دينه عن عوض كالبيع ، والقرض ، أو عرف له مال سابق ) ، زاد جماعة : والغالب بقاؤه ( حبس ) ، لأن الأصل بقاء ماله ، وحبسه وسيلة إلى قضاء دينه كالمقر بيساره ، وكذا إذا لزمه عن غير مال كالضمان وأقر بالملاءة فيقبل قول غريمه : إنه لا يعلم عسرته بدينه ( إلى أن يقيم بينة على نفاد ماله ) أي : تلفه ، وتقبل البينة من أهل الخبرة الباطنة ، وغيرها ، لأن التلف يطلع عليه [ ص: 309 ] ( أو إعساره ) ، لأن البينة تظهر عسرته ، فوجب اعتبارها ، وحينئذ لا يجوز حبسه ويجب إنظاره ، ولا تحل ملازمته لقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة [ البقرة : 280 ] وتعتبر البينة به أن يكون من أهل الخبرة الباطنة ، ذكره في " المغني " ، و " الشرح " ( وهل يحلف معها ) أي : مع البينة أنه معسر ؛ ( على وجهين ) أحدهما : لا يحلف ، وهو ظاهر كلام أحمد ، قال القاضي : سواء شهدت بتلف المال ، أو الإعسار ، لأنها بينة مقبولة ، فلم يستحلف معها ، كما لو شهدت بأن هذا عبده ، والثاني : بلى ، وذكره ابن أبي موسى عن أصحابنا ، لاحتمال أن يكون له مال باطن خفي على البينة ، والمذهب كما قطع به الشيخان ، وصححه في " الرعاية " ، و " الفروع " أنها إن شهدت بالتلف فطلب منه اليمين على عسرته لزمه ذلك ، لأن اليمين على أمر محتمل خلاف ما شهدت به البينة ، وإن شهدت بالإعسار ، فلا لما فيه من تكذيب البينة .

تنبيه : ظاهر كلامهم أنه متى توجه حبسه حبس ، ولو كان أجيرا في مدة الإجارة ، أو امرأة مزوجة ، لأن الإجارة ، والزوجية لا تمنع من الحبس إن قيل به ، وذكر الشيخ تقي الدين فيما إذا كان المدعي امرأة على زوجها ، فإذا حبس لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس بل يستحقه عليها كحبسه في دين غيره فله إلزامها بملازمة بيته ، فإن خاف أن تخرج منه بلا إذنه فله أن يسكنها حيث لا يمكنها الخروج ، كما لو سافر عنها .

( وإن لم يكن كذلك ) أي : لم يكن دينه عن عوض كأرش جناية ، أو قيمة متلف ، أو مهر ، أو عوض خلع ، أو ضمان ، ولم يقر بالملاءة ، ولم يعرف له [ ص: 310 ] مال سابق ( حلف ) أنه لا مال له ( وخلي سبيله ) ، لأن الأصل عدم المال قال ابن المنذر : الحبس عقوبة ، ولا نعلم له ذنبا يعاقب به ، والأصل عدم ماله بخلاف من علم له مال ، فإنه يحبس حتى يعلم ذهابه ، وفي " الترغيب " يحبس إلى ظهور إعساره ، وفي " البلغة " إلى أن يثبت ، وظاهر الخرقي يحبس في الحالين ، والمذهب ما تقدم .

مسألة : يحرم أن يحلف معسر لا حق عليه ، ويتأول ، نص عليه ، ومن سئل عن غريب وظن إعساره شهد .

فائدة : قال أحمد : ثنا عفان ثنا عبد الوارث ثنا محمد بن جحادة عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أنظر معسرا ، فله بكل يوم - مثله صدقة قبل أن يحل الدين ، فإذا حل الدين ، فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة . إسناده جيد ( وإن كان له مال لا يفي بدينه ) أي : الحال ، ولا كسب له ، ولا ما ينفق منه غيره ، أو خيف تصرفه فيه ( فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم ، لأنه عليه السلام حجر على معاذ لما سأله غرماؤه ، والأصح أن طلب البعض كالكل ، وظاهره أنه لا يحجر عليه من غير سؤال الغرماء ، لكن لو طلبه المفلس وحده فوجهان ، المذهب لا يلزمه إجابته ( ويستحب إظهاره ) أي : إظهار الحجر عليه ( والإشهاد عليه ) ، لأن في ذلك إعلاما للناس بحاله ، فلا يعامله أحد إلا على بصيرة وليثبت عند حاكم آخر ، فلا يحتاج إلى ابتداء حجر ثان ، وهل للحاكم أن يشفع في إسقاط بعض الدين ؛ على روايتين

التالي السابق


الخدمات العلمية