صفحة جزء
فصل

الثاني : معرفة الأجرة بما تحصل به معرفة الثمن إلا أنه يصح أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته وكذلك الظئر ، ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو وليدة إذا كان المسترضع موسرا ، وإن دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليعملاه ولهما عادة بأجرة صح ولهما ذلك ، وإن لم يعقدا عقد إجارة ، وكذلك دخول الحمام والركوب في سفينة الملاح ، وتجوز إجارة دار بسكنى دار ، وخدمة عبد ، وتزويج امرأة وتجوز إجارة الحلي بأجرة من جنسه وقيل : لا يصح ، وإن قال : إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم فهل يصح ؛ على روايتين ، وإن قال : إن خطته روميا فلك درهم ، وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم ، فعلى وجهين ، وإن أكراه دابة ، فقال : إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة ، وإن رددتها غدا فكراؤها عشرة ، فقال أحمد : لا بأس به ، وقال القاضي : يصح في اليوم الأول دون الثاني ، وإن أكراه دابة عشرة أيام بعشرة دراهم فما زاد فله بكل يوم درهم ، فقال أحمد : هو جائز ، وقال القاضي : يصح في العشرة وحدها ، ونص أحمد على أنه لا يجوز أن يكتري لمدة غزاته ، وإن سمى لكل يوم شيئا معلوما فجائز . وإن أكراه كل شهر بدرهم ، أو كل دلو بتمرة ، فالمنصوص أنه يصح ، وكلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة ، ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل شهر ، وقال أبو بكر وابن حامد : لا يصح .


فصل

( الثاني معرفة الأجرة بما تحصل به معرفة الثمن ) بغير خلاف نعلمه لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره ، رواه أحمد ، ويعتبر العلم بها مضبوطا بالكيل ، أو الوزن ; لأنها أحد العوضين فاشترط معرفتها كالعوض في البيع ، فإن كان معلوما بالمشاهدة كصبرة نقد ، أو طعام ، فوجهان ، فإن كان في الذمة ، فكالثمن ، وإن كان معينا ، فكالمبيع ، فلو آجر الدار بعمارتها لم تصح للجهالة ، ولو آجرها بمعين على أن ما يحتاج إليه بنفقة المستأجر محتسبا به من الأجرة صح ; لأن الاصطلاح على المالك ، وقد وكله فيه ، ولو شرط أن يكون عليه خارجا عن الأجرة لم يصح ( إلا أنه يصح أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته ) روي عن أبي بكر ، وعمر ، وأبي موسى لما تقدم من قوله عليه السلام " رحم الله أخي موسى " الخبر ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه ، ولأن العادة جارية به من غير نكير ، فكان كالإجماع ، ولأنه مقيس على الظئر المنصوص عليه فقام العوض فيه مكان التسمية كنفقة الزوجية ، وعنه : لا يجوز ، اختاره القاضي ; لأنه مجهول ، وإنما جاز في الظئر للنص ، وعلى الأول يكون الإطعام والكسوة عند التنازع كالزوجة ، نص عليه ، وعنه : كمسكين في الكفارة ، قال في " الشرح " : لأن للكسوة [ ص: 67 ] عرفا ، وهي كسوة الزوجات ، وللإطعام عرفا ، وهو الإطعام في الكفارات ، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله ; لأن الإطلاق يجزئ فيه أقل ما يتناوله اللفظ كالوصية ، وليس له أن يطعمه إلا ما يوافقه من الأغذية ، فإن احتاج إلى دواء لمرضه لم يلزم المستأجر لعدم شرطه ، وعنه يصح في دابة بعلفها ( وكذلك الظئر ) إجماعا لقوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن [ الطلاق 6 ] ، واسترضع النبي صلى الله عليه وسلم لولده إبراهيم ، ولأن الحاجة تدعو إليه ; لأن الطفل في العادة لا يعيش إلا بالرضاع ، فإن جعل الأجرة طعامها وكسوتها جاز على المذهب لقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف [ البقرة 233 ] ، وعنه المنع منه ; لأنه يختلف فيكون مجهولا ، فعلى الصحة لو استأجر للرضاع دون الحضانة أو بالعكس اتبع ، فإن أطلق الرضاع دخلت الحضانة في وجه للعرف ، والثاني : لا ; لأن العقد لم يتناولها إذ الحضانة عبارة عن تربية الطفل وحفظه ، وجعله في سريره ، ودهنه ، وكحله ، وغسل خرقه ، ونحوه ، ويشترط لصحة العقد العلم بمدة الرضاع ، ومعرفة الطفل بالمشاهدة ، قال القاضي : أو بالصفة ، وموضع الرضاع ، ومعرفة العوض ، والمعقود عليه في الرضاع خدمة الطفل ، وحمله ، ووضع الثدي في فيه ، واللبن تبع كالصبغ ، وقيل : اللبن ، قال القاضي : هو أشبه ; لأنه المقصود ، ولهذا يستحق الأجر بالرضاع دون الخدمة ، وهذا خاص بالآدميين للضرورة إلى حفظه وبقائه .

مسألة : للمرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر لبنها ، ويصلح به ، وللمكتري مطالبتها بذلك ، فلو سقته لبن غنم ، أو دفعته إلى غيرها فلا أجرة لها ; لأنها لم تف بالمعقود عليه .

[ ص: 68 ] ( ويستحب أن تعطى ) إذا كانت حرة ( عند الفطام عبدا أو وليدة إذا كان المسترضع موسرا ) لما روى أبو داود بإسناده عن حجاج بن حجاج الأسلمي عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع ؛ قال : " الغرة العبد أو الأمة " المذمة بكسر الذال من الذمام ، وبفتحها من الذم ، ولأن ذلك سبب حياة الولد وبقائه ، فاستحب للموسر جعل الجزاء رقبة لتناسب ما بين النعمة والشكر ، وأوجبه أبو بكر لما ذكرناه ، فإن كانت المرضعة أمة سن إعتاقها ; لأنه تحصل به المجازاة ( وإن دفع ثوبه إلى قصار أو خياط ليعملاه ) أي بالقصر أو الخياطة ( ولهما عادة بأجرة صح ولهما ذلك ) أي أجرة المثل ( وإن لم يعقدا عقد إجارة ) لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول ، فصار كنقد البلد ، وقيل : يستحق الأجرة من عرف بأخذها ، وهذا إذا كانا منتصبين لذلك ، وإلا لم يستحقا أجرا إلا بعقد ، أو بشرط العوض ، أو تعريض ; لأنه لم يوجد عرف يقوم مقام العقد فهو كما لو عمل بغير إذن مالكه ، وكذا لو دفع متاعه ليبيعه ، نص عليه ، أو استعمل حمالا ، أو شاهدا ، أو نحوه ، فله أجرة مثله ، ولو لم يكن له عادة بأخذ الأجرة ( وكذلك دخول الحمام والركوب في سفينة الملاح ) أي يستحقان أجرة المثل بدون العقد ; لأن شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعريض ، وكذا لو حلق رأسه ، أو غسله ، أو شرب منه ماء ، قاله في " الرعاية " ، وما يعطاه الحمامي فهو أجرة المكان ، والسطل ، والمئزر ويدخل الماء تبعا ، وليس عليه ضمان الثياب إلا أن يستحفظه إياها بالقول صريحا ، ذكره في " التلخيص " .

( وتجوز إجارة دار بسكنى دار ، وخدمة عبد ، وتزويج امرأة ) لقصة شعيب [ ص: 69 ] عليه السلام ; لأنه جعل النكاح عوض الأجرة ، ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون عوضا في الإجارة ، فكما جاز أن يكون العوض عينا جاز أن يكون منفعة سواء كان الجنس واحدا كالأول ، أو مختلفا كالثاني ، ومنعها أبو حنيفة في المتفق دون المختلف كسكنى دار بمنفعة بهيمة ; لأن الجنس الواحد عنده يحرم فيه النساء ، وجوابه بأن المنافع في الإجارة ليست في تقدير النسيئة ، ولو كانت نسيئة ما جاز في جنسين ; لأنه يكون بيع دين بدين ، قاله في " المغني " ، و " الشرح " .

( وتجوز إجارة الحلي ) للبس والعارية ، نص عليه ، وقاله أكثر العلماء ( بأجرة من جنسه ) لأن الحلي عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة مع بقائها ، فجاز كالأراضي ( وقيل : لا يصح ) لأنها تحتك بالاستعمال فيذهب منه أجزاء وإن كانت يسيرة ، فيحصل الأجر في مقابلتها ومقابلة الانتفاع بها يفضي إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر ، وعنه : الوقف ، قال القاضي : هذا محمول على إجارته بأجرة من جنسه ، فأما بغير جنسه فلا بأس لتصريحه بجوازه ، وما ذكره أولا هو الأولى ; لأنه لو قدر نقصها فهو شيء يسير لا يقابل بعوض ، ولا يكاد يظهر في وزن ، ولو ظهر فالأجرة في مقابلة الانتفاع لا في مقابلة الأجر ; لأن الأجر إنما هو عوض المنفعة ، ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر لإفضائه إلى التفرق قبل القبض .

تنبيه : علم مما سبق أنه لو استأجر من يسلخ له بهيمة بجلدها لم يجز ; لأنه لا يعلم هل يخرج سليما أو لا ، وهل هو ثخين أو رقيق ، ولأنه لا يجوز أن يكون عوضا [ ص: 70 ] في البيع ، فكذا هنا ، فلو سلخها بذلك فله أجر المثل ، وكذا لو استأجر راعيا بثلث درها ونسلها وصوفها أو جميعه ، نص عليه في رواية سعيد بن محمد النسائي إذ العوض معدوم مجهول لا يدري هل يوجد أم لا ، ولا يصلح ثمنا ، لا يقال : قد جوزتم دفع الدابة إلى من يعمل عليها بجزء من مغلها ; لأنه جاز تشبيها بالمضاربة ; لأنها عين تنمي بالعمل فجاز بخلافه هنا مع أن المجد حكى رواية بالجواز ، وحينئذ فلا فرق ، وقياس ذلك لو دفع نحله إلى من يقوم عليه بجزء من عسله ، أو شمعه ، والمذهب لا يصح لحصول نمائه بغير عمله ، واختار الشيخ تقي الدين الجواز ، فلو اكتراه على رعيها مدة معلومة بجزء معلوم منها صح ; لأن العمل والمدة والأجر معلوم أشبه ما لو جعله دراهم ( وإن قال : إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم ، فهل يصح ؛ على روايتين ) أصحهما لا يصح ; لأنه عقد واحد اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير ، فلم يصح كما لو قال : بعتك بدينار نقدا بدينارين نسيئة ، فعلى هذا له أجر المثل إن فعل ، والثانية يصح ، قاله الحارث العكلي ; لأنه سمى لكل عمل عوضا معلوما كما لو قال : كل دلو بتمرة ، وكذا الخلاف إن زرعها برا ، فبخمسة ، وذرة بعشرة .

( وإن قال : إن خطته روميا فلك درهم ، وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم ، فعلى وجهين ) بناء على التي قبلها ، والأصح أنه لا يصح ; لأنه عقد معاوضة لم يتعين فيه العوض ، ولا المعوض بخلاف كل دلو بتمرة من حيث إن العمل الثاني ينضم إلى الأول ، ولكل عوض مقدر ، وعنه فيمن استأجر رجلا يحمل له كتابا إلى [ ص: 71 ] الكوفة ، وقال : إن أوصلته يوم كذا فلك عشرون ، وإن تأخرت بعده فلك عشرة ، أنها فاسدة وله أجر المثل .

( وإن أكراه دابة ، فقال : إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة ، وإن رددتها غدا فكراؤها عشرة ، فقال أحمد : لا بأس به ) نقله عبد الله ، وجزم به في " الوجيز " ; لأنه لا يؤدي إلى التنازع ( وقال القاضي : يصح في اليوم الأول ) لأنه معلوم ( دون الثاني ) قال في " الشرح " : والظاهر عن أحمد فساد العقد على قياس بيعتين في بيعة ، ثم قال : وقياس حديث علي والأنصاري صحته ( وإن أكراه دابة عشرة أيام بعشرة دراهم فما زاد فله بكل يوم درهم ، فقال أحمد ) في رواية أبي الحارث ( هو جائز ) لأن لكل عمل عوضا معلوما فهو كما لو استقى كل دلو بتمرة ، ونقل عبد الله وابن منصور نحوه ( وقال القاضي : يصح في العشرة وحدها ) لأن المؤجر الذي تقابله العشرة معلوم دون ما بعده ; لأن مدته غير معلومة فلم تصح كما لو قال : استأجرتك لتحمل هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة بدرهم وما زاد فلك بحسابه ، وجوابه بأنه لا نص للإمام فيها ، وقياس قوله صحتها ، ولو سلم فسادها فالقفزان الذي شرط حملها غير معلومة وهي مختلفة فلم يصح العقد لجهالتها بخلاف الأيام فإنها معلومة ( ونص أحمد على أنه لا يجوز أن يكتري لمدة غزاته ) وهو قول أكثر العلماء ; لأن المدة والعمل مجهولان فلم يجز كما لو استأجر لمدة سفره في تجارته لاختلافها طولا وقصرا ، فإن فعل فله أجر المثل ( وإن سمى لكل يوم شيئا معلوما فجائز . ) لأن علي بن أبي طالب آجر نفسه كل دلو بتمرة ، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأن الأجر [ ص: 72 ] وكل يوم معلومان فصح كما لو آجر شهرا كل يوم كذا ، وحينئذ فلا بد من تعيين ما يستأجر له من ركوب وحمل معلوم ، ويستحق الأجر المسمى سواء أقامت أو سارت ; لأن المنافع ذهبت في مدته كما لو استأجر دارا وأغلقها ، وعنه : لا يصح ; لأن المدة مجهولة .

( وإن أكراه كل شهر بدرهم ، أو كل دلو بتمرة ، فالمنصوص أنه يصح ) اختاره الخرقي ، والقاضي ، وعامة أصحابه ، والشيخان لما روي عن علي قال : جعت مرة جوعا شديدا ، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة ، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرا ، فظننت أنها تريد بله ، فقاطعتها كل ذنوب بتمرة ، فمدرت ستة عشر ذنوبا ، فعدت لي ستة عشر تمرة ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأكل معي منها ، رواه أحمد ، ومثله إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم ، فالعلم بالثمن يتبع العلم بالمثمن ، فهنا كذلك العلم بالأجر يتبع العلم بالمنفعة ، فعلى هذا تلزم الإجارة في الشهر الأول بإطلاق العقد ، قاله في " المغني " ، و " الشرح " ، وما بعده يكون مراعى ، ونبه عليه بقوله ( وكلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة ) وقاله أكثر الأصحاب ; لأن دخوله بمنزلة إيقاع العقد على عينه ابتداء ( ولكل واحد منهما الفسخ ) بأن يقول : فسخت الإجارة في الشهر الآخر ، وليس بفسخ على الحقيقة ; لأن العقد الثاني لم يثبت ، قاله في " الشرح " ( عند تقضي كل شهر ) لأن اللزوم إنما كان لأجل الدخول المنزل منزلة إيقاع العقد ابتداء ولم يوجد بعد ، ومقتضاه أنه بمجرد دخول الشهر الآخر يلزم ، ولم يملكا الفسخ ، قال ابن الزاغوني : يلزم بقية الشهور إذا شرع في أول الجزء من ذلك الشهر ، وقال القاضي : له الفسخ في جميع اليوم الأول من الشهر الثاني ، وبه قطع المجد [ ص: 73 ] وأورده ابن حمدان مذهبا ، وهو أظهر ، وفي " المغني " ، و " الشرح " إذا ترك التلبس به فهو كالفسخ لا تلزمه أجرة لعدم العقد ( وقال أبو بكر ، وابن حامد ) وابن عقيل حكاه عنه في " الشرح " ( لا يصح ) العقد ، وهو رواية ; لأن المدة مجهولة ، وحملا كلام أحمد على أنه وقع على معينة ، وليس بظاهر أما لو قال : آجرتك داري عشرين شهرا كل شهر بدرهم فهو جائز بغير خلاف نعلمه ; لأن المدة والأجر معلومان ، وليس لواحد منهما الفسخ ; لأنها مدة واحدة أشبه ما لو قال : أجرتك عشرين شهرا بعشرين درهما .

فرع : إذا قال : آجرتك شهرا بدرهم وما زاد فبحسابه صح في الشهر الأول ، ويحتمل أن يصح في كل شهر تلبس به ، فلو قال : أجرتك هذا الشهر بدرهم وكل شهر بعد ذلك بدرهم صح في الأول وفيما بعده وجهان .

التالي السابق


الخدمات العلمية