صفحة جزء
فصل : وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ، ولا يملكه بالإقطاع بل يصير كالمتحجر الشارع في الإحياء ، وله إقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ورحاب المسجد ، ما لم يضيق على الناس ، ولا يملكه بالإقطاع ، ويكون المقطع أحق بالجلوس فيها ، فإن لم يقطعها فلمن سبق إليها الجلوس فيها ، ويكون أحق بها ما لم ينقل قماشه عنها ، فإن أطال الجلوس فيها فهل يزال ؛ على وجهين ، وإن سبق اثنان أقرع بينهما ، وقيل : يقدم الإمام من يرى منهما ، ومن سبق إلى معدن فهو أحق بما ينال منه ، وهل يمنع إذا طال مقامه ؛ على وجهين ، ومن سبق إلى مباح كصيد ، وعنبر ، وحطب ، وثمر ، وما ينبذه الناس رغبة عنه فهو أحق به ، وإن سبق إليه اثنان قسم بينهما ، وإذا كان الماء في نهر غير مملوك ، كمياه الأمطار ، فلمن في أعلاه أن يسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى كعبه ثم يرسل إلى من يليه ، فإن أراد إنسان إحياء أرض يسقيها منه ، جاز ما لم يضر بأهل الأرض الشاربة منه


فصل

( وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ) لأنه - عليه السلام - أقطع بلال بن الحارث العتيق ، وأقطع وائل بن حجر أرضا ، وأقطع أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وجمع من الصحابة ، وينبغي أن يقطع مقدار ما عينه ، فإن فعل ثم تبين عجزه عن إحيائه استرجعه كما استرجع عمر من بلال ما عجز عن عمارته بالعقيق الذي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ولا يملكه بالإقطاع ) لأنه لو ملكه به لما جاز استرجاعه ( بل يصير كالمتحجر الشارع في الإحياء ) لأنه ترجح بالإقطاع على غيره ، ويسمى تملكا لمآله إليه ، وكذا للإمام اقتطاع غير موات تمليكا وانتفاعا للمصلحة ، نقل حرب : القطائع جائزة ، وقال له المروذي ، قال مالك : لا بأس بقطائع الأمراء ، فأنكره شديدا ، ونقل يعقوب : قطائع الشام والجزيرة من المكروهة ، كانت لبني أمية ، فأخذها هؤلاء ، ونقل محمد بن داود : ما أدري ما هذه القطائع يخرجونها ممن شاءوا إلى من شاءوا ، قال أبو بكر : لأنه يملكها من أقطعها ، فكيف يخرج عنه ، ولهذا عوض عمر جريرا البجلي لما رجع فيما أقطعه ( وله إقطاع الجلوس ) للبيع والشراء ( في الطرق الواسعة ورحاب المسجد ) إن قيل إنها ليست منه إذا كانت واسعة ; لأن ذلك يباح الجلوس فيه والانتفاع به ، فجاز إقطاعه كالأرض الدارسة ، وتسمى إقطاع إرفاق ( ما لم يضيق على الناس ) لأنه ليس للإمام أن يأذن فيما لا مصلحة فيه ، فضلا عما فيه مضرة .

[ ص: 260 ] ( ولا يملكه بالإقطاع ) لما ذكر في إقطاع الأرض ( ويكون المقطع أحق بالجلوس فيها ) بمنزلة السابق إليها من غير إقطاع ، والفرق بينهما أن السابق إذا نقل متاعه عنها فلغيره الجلوس فيها ، وهذا قد استحق بإقطاع الإمام ، فلا يزول حقه بنقل متاعه ، ولا لغيره الجلوس فيه ، وشرطه ما لم يعد فيه ، ويحرم ما يضيق على المارة ولو بعوض ، وحكمه في التظليل على نفسه بما ليس ببناء ، ومنعه من المقام إذا أطال مقامه ، حكم السابق .

( فإن لم يقطعها فلمن سبق إليها الجلوس فيها ) على الأصح على وجه لها لا يضيق على أحد ، ولا يضر بالمارة لاتفاق أهل الأمصار في سائر الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار ، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار فلم يمنع منه كالاحتياز ( ويكون أحق بها ما لم ينقل قماشه عنها ) لسبقه إلى مباح كمار ، وظاهره أنه إذا قام وترك متاعه لم يجز لغيره إزالته ، وأنه إذا نقل متاعه كان لغيره الجلوس فيه ، وقيل : إن فارق ليعود قريبا فعاد فهو أحق به ، وعنه : يكون أحق به إلى الليل ، وفي افتقاره إلى إذن ، فيه وجهان ، لكن قال أحمد : ما كان ينبغي لنا أن نشتري من هؤلاء الذين يبيعون على الطريق ، وحمله القاضي على ضيقه ، أو كونه يؤذي المارة ( فإن أطال الجلوس فيها ) من غير إقطاع ( فهل يزال ؛ على وجهين ) كذا في " الفروع " أشهرهما أنه يزال ; لأنه يصير كالتملك ، ويختص بنفع يساويه غيره في استحقاقه ، والثاني : لا يزال ، جزم به في " الوجيز " ; لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فلم يمنع من الاستدامة كالابتداء ( وإن سبق اثنان ) فأكثر ، وضاق المكان ( أقرع بينهما ) على المذهب [ ص: 261 ] لأنهما استويا في السبق ، والقرعة مميزة ( وقيل : يقدم الإمام من يرى منهما ) لأنه أعلم بالمصلحة في ذلك .

( ومن سبق إلى معدن فهو أحق بما ينال منه ) للخبر ، وسواء كان المعدن ظاهرا أو باطنا إذا كان في موات ( وهل يمنع إذا طال مقامه ؛ على وجهين ) كذا في " الفروع " أحدهما ، وجزم به في " الوجيز " لا يمنع للخبر ، والثاني بلى ; لأنه يصير كالمتملك ، وفي " الشرح " إن أخذ قدر حاجته ، وأراد الإقامة ليمنع غيره ، منع منه ; لأنه تضييق على الناس بما لا نفع فيه ، وقيل : إن أخذه لتجارة هايأ الإمام بينهما ، وإن أخذه لحاجة ، فأوجه القرعة والمهايأة ، وتقديم من يرى الإمام ، وينصب من يأخذه ، ويقسمه بينهم ، وإن سبق إليه اثنان فأكثر وضاق الوقت عن أخذهم جملة أقرع ( ومن سبق إلى مباح كصيد ، وعنبر ، وحطب ، وثمر ، وما ينبذه الناس رغبة عنه ) كالذي ينثر من الثمر والزرع ، وما ينبع من المياه في الموات ( فهو أحق به ) لقوله - عليه السلام : من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له ، مع قوله لما رأى ثمرة ساقطة " لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها " رواه البخاري ، ويملكه الآخذ مسلما كان أو ذميا ( وإن سبق إليه اثنان قسم بينهما ) جزم به الآدمي ، وصاحب " الوجيز " البغداديان ، لأنهما استويا في السبب ، والقسمة ممكنة ، وحذارا من تأخير الحق ، وهذا إذا ضاق الوقت عن أخذهم جملة ، والأشهر القرعة ، وقيل : يقدم الإمام من شاء بالاجتهاد وظهور الأحقية كأموال بيت المال ، ولا فرق بين الحاجة وعدمها .

فرع : الأسباب المقتضية للتمليك : الإحياء ، والميراث ، والمعاوضات ، [ ص: 262 ] والهبات ، والوصايا ، والوقف ، والصدقات ، والغنيمة ، والاصطياد ، ووقوع الثلج في المكان الذي أعده ، وانقلاب الخمر ، والبيضة المذرة فرخا .

( وإذا كان الماء في نهر غير مملوك كمياه الأمطار فلمن في أعلاه أن يسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى كعبه ، ثم يرسل إلى من يليه ) نص عليه ، وجملته أن الماء لا يخلو إما أن يكون نهرا جاريا أو واقفا ، والجاري قسمان إما أن يكون في نهر غير مملوك ، وهو ضربان ، أحدهما : أن يكون نهرا عظيما كالنيل والفرات الذي لا يستضر أحد بالسقي منه ، فهذا لا تزاحم فيه ، الثاني : أن يكون نهرا صغيرا يزدحم الناس فيه ، ويتشاحون في مائه كنهر الشام ، أو مسيل يتشاح فيه أهل الأرضين الشاربة منه ، فيبدأ بمن في أول النهر فيسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى الكعبين ، ثم يرسل إلى الثاني فيفعل كذلك حتى تنتهي الأراضي كلها ، فإن لم يفضل عن الأول شيء ، أو عن الثاني ، أو عن من يليهما فلا شيء للباقين ; لأنه ليس لهم إلا ما فضل ، فهم كالعصبة ، ولا نعلم فيه خلافا لما روى عبد الله بن الزبير أن رجلا خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها ، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب الأنصاري ، وقال : أن كان ابن عمتك ، فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، فقال الزبير : والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] الآية ، متفق عليه ، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : نظرنا في قول النبي [ ص: 263 ] صلى الله عليه وسلم : ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، فكان ذلك إلى الكعبين ، وشراج الحرة : مسايل الماء ، جمع شرج ، وهو النهر الصغير ، والحرة أرض ملتبسة بحجارة سود ، ولأن السابق في أول النهر كالسابق إلى أول المشرعة ، وإن كانت أرضه مستقلة سدها حتى يصعد إلى الثاني ، قاله في " الترغيب " ، فإن كانت أرض الأعلى مختلفة ، منها عالية ، ومنها مستفلة ، سقى كل واحدة على حدتها ، فإن استوى اثنان في القرب اقتسما الماء على قدر الأرض إن أمكن وإلا أقرع ، فإن كان الماء لا يفضل عن أحدهما سقى من تقع له القرعة بقدر حقه ( فإن أراد إنسان إحياء أرض يسقيها منه جاز ما لم يضر بأهل الأرض الشاربة منه ) أي : إذا كان لجماعة رسم شرب من نهر غير مملوك ، فجاء إنسان ليحيي مواتا أقرب من رأس النهر من أرضهم لم يكن له أن يسقي قبلهم ; لأنهم أسبق إلى النهر منه ، وظاهره أنهم لا يملكون منعه من الإحياء ، وفيه وجه ، فعلى الأول لو سبق إلى مسيل ماء ، أو نهر غير مملوك ، فأحيا في أسفله مواتا ثم آخر فوقه ثم ثالث ، سقى المحيي أولا ثم الثاني ثم الثالث ; لأن العبرة تقدم السبق إلى الإحياء لا إلى أول النهر .

القسم الثاني : الجاري في نهر مملوك ، وهو ضربان ، أحدهما : أن يكون الماء مباح الأصل ، مثل أن يحفر إنسان نهرا يتصل بنهر كبير مباح ، فما لم يتصل لا يملكه ، وهو كالمتحجر ، فإذا اتصل الحفر ملكه ، وإن لم يجر فيه ، إذ الإحياء يحصل بتهيئته للانتفاع دون حصول المنفعة ، فيصير مالكا لقراره ، وحافتيه ، وحريمه ، وهو ملقى الطين من جوانبه ، وقال القاضي : هو حق من حقوق الملك ، وحينئذ [ ص: 264 ] إذا كان لجماعة فهو بينهم على حسب العمل والنفقة ، فإن لم يكفهم ، وتراضوا على قسمته جاز ، وإلا قسمه حاكم عند التشاح على قدر ملكهم ، فإن احتاج المشترك إلى كرى أو عمارة كان ذلك بينهم على حسب ملكهم ، فإن كان بعضهم أدنى إلى أوله من بعض اشترك الكل ، إلى أن يصلوا إلى الأول ، ثم لا شيء عليه إلى الثاني ، ثم يشترك من بعده كذلك كلما انتهى العمل ، فإذا حصل نصيب إنسان في ساقيته سقى به ما شاء ، وقال القاضي : ليس له سقي أرض ، ليس لها رسم شرب من هذا النهر ، ولكل منهم أن يتصرف في ساقيته المختصة به بما أحب من إجراء ماء ، أو رحى ، أو دولاب بخلاف المشترك ، فإن أراد أحد الشركاء أن يأخذ من النهر قبل قسمه شيئا يسقي به أرضا في أول النهر أو غيره لم يجز ; لأن الآخذ منه ربما احتاج إلى تصرف في أول حافة النهر المملوك لغيره ، ولو فاض ماء هذا النهر إلى أرض إنسان فهو مباح كالطائر .

الضرب الثاني : أن يكون منبع الماء مملوكا بأن يشترك جمع في استنباط عين وإجرائها ، فإنهم يملكونها ، ويشتركون فيها ، وفي ساقيتها على حسب النفقة والعمل فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية