صفحة جزء
[ ص: 267 ] باب الجعالة وهي أن يقول : من رد عبدي ، أو لقطتي ، أو بنى لي هذا الحائط فله كذا ، فمن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقه ، وإن فعله جماعة فهو بينهم ، ومن فعله قبل ذلك لم يستحقه ، سواء أرده قبل بلوغ الجعل أو بعده ، وتصح على مدة مجهولة وعمل مجهول إذا كان العوض معلوما ، وهي عقد جائز لكل واحد منهما فسخها ، فمتى فسخها العامل لم يستحق شيئا ، وإن فسخها الجاعل بعد الشروع فعليه للعامل أجرة عمله ، وإن اختلفا في أصل الجعل أو قدره ، فالقول قول الجاعل ، ومن عمل لغيره عملا بغير جعل فلا شيء له ، إلا في رد الآبق فإن له بالشرع دينارا أو اثني عشر درهما ، وعنه : إن رده من خارج المصر فله أربعون درهما ، ويأخذ منه ما أنفق عليه في قوته ، وإن هرب منه في طريقه ، وإن مات السيد استحق ذلك في تركته .


باب الجعالة

هي بتثليث الجيم كما أفاده ابن مالك ، يقال : جعلت له جعلا أوجبت ، وقال ابن فارس : الجعل والجعالة والجعيلة : ما يعطاه الإنسان على أمر بفعله ، وأصلها قوله تعالى ولمن جاء به حمل بعير [ يوسف : 72 ] وكان معلوما عندهم كالوسق ، وشرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يكن في شرعنا ما يخالفه ، وحديث اللديغ شاهد بذلك ، مع أن الحكمة تقتضيه ، والحاجة تدعو إليه ، فإنه قد لا يوجد متبرع فاقتضت جواز ذلك .

( وهي أن يقول ) المطلق التصرف ( من رد عبدي ، أو لقطتي ، أو بنى لي هذا الحائط ) وكذا سائر ما يستأجر عليه من الأعمال ( فله كذا ) وهو أكثر من دينار أو اثني عشر درهما ، وإلا فله ما قدره الشارع ; لأنه في معنى المعاوضة ، وتكون عقدا جائزا ، لكل منهما الرجوع فيه قبل العمل ، واقتضى ذلك أن لا يكون في يده ، فلو كانت اللقطة في يده ، فجعل له مالكها جعلا ليردها ، لم يبح له أخذه ( فمن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقه ) لأن العقد استقر بتمام العمل ، فاستحق الجعل كالربح في المضاربة ، وفي أثنائه يستحق حصة تمامه ( وإن فعله جماعة فهو بينهم ) بالسوية ; لأنهم اشتركوا في العمل الذي يستحق به العوض ، فاشتركوا فيه كالأجر في الإجارة ، بخلاف ما لو قال : من دخل هذا النقب فله دينار ، فدخله جماعة استحق كل واحد منهم دينارا كاملا ; لأنه قد دخل كل منهم دخولا كاملا ، وهنا لم يرده واحد منهم كاملا ، ومثله من نقب السور فله دينار ، فنقب ثلاثة نقبا واحدا ، فلو جعل لواحد في رده [ ص: 268 ] دينارا ، ولآخر دينارين ، والثالث ثلاثة ، فلكل واحد منهم ثلث ما جعل له في رده ، فلو جعل لواحد دينارا ، ولآخرين عوضا مجهولا فردوه ، فلصاحب الدينار ثلثه ، وللآخرين أجرة عملهما ، فإن جعل له جعلا في رده فرده هو وآخران معه ، وقالا : رددناه معاونة له استحق جميع الجعل ، وإن قالا : رددناه لنأخذ العوض فلا شيء لهما ، وله ثلث الجعل .

فرع : إذا قال : من رد عبدي من موضع كذا ، فرده من نصف الطريق ، أو قال : من رد عبدي ، فرد أحدهما ، فنصفه ، وإن رده من أبعد فله المسمى ، ذكره في " التلخيص " ، وإن رده من غير الموضع لم يستحق شيئا في " المغني " ، و " الشرح " كهروبه منه في نصف الطريق أو موته .

( ومن فعله قبل ذلك ) أي : قبل بلوغ الجعل ( لم يستحقه ) لأن فعله وقع غير مأذون فيه فلم يستحقه ، ولأنه بدل منافعه جعل له ، فيكون عاملا في مال غيره بغير إذنه ، وفارق الملتقط بعد بلوغ الجعل ، فإنما بدل منافعه بعوض جعل له ، فاستحقه كالأجير إذا عمل بعد العقد ، ولا يستحق أخذ الجعل بردها ; لأن الرد واجب عليه ( سواء أرده قبل بلوغ الجعل أو بعده ) لما سبق من أن الجعل بدل عن الفعل والرد ، فإن قال غير صاحب الضالة : من ردها فله دينار فهو ضامن له ، وإن أسنده إلى مالكها فلا ( وتصح على مدة مجهولة وعمل مجهول ) لأنها عقد جائز ، فجاز أن يكون العمل والمدة مجهولين كالشركة ، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لكونه لا يعلم موضع الضالة والآبق ( إذا كان العوض معلوما ) لأنه يصير لازما بتمام العمل ، وكالأجرة ; لأنه في معنى المعاوضة لا تعليقا محضا ، [ ص: 269 ] فلو قال : أنت بريء من المائة صح ; لأن تعليق الإسقاط أقوى ، وفي " المغني " تخريج بجواز جهالة الجعل ، إن لم يمنع التسليم لقوله : من رد ضالتي فله ثلثها بخلاف ، فله شيء ، أخذا من قول الإمام في الغزو : من جاء بعشرة أرؤس فله رأس . فعليه لو كانت الجهالة تمنع من التسليم ، لم تصح الجعالة وجها واحدا ، وحينئذ فيستحق العامل أجر المثل ; لأنه عمل بعوض لم يسلم له ، فاستحق أجر المثل كالإجارة وقد تضمن كلامه أمورا :

منها : أنه لا يشترط العلم بالعمل ، والمدة بخلاف الإجارة .

ومنها : أنه لو قدر المدة بأن قال : إن وجدتها في شهر صح ; لأنها إذا جازت مجهولة ، فمع التقدير أولى .

ومنها : لا يشترط تعيين العامل للحاجة .

ومنها : أن العمل قائم مقام القبول ; لأنه يدل عليه كالوكالة .

ومنها : أن كل ما جاز أن يكون عوضا في الإجارة جاز أن يكون عوضا في الجعالة ، وكل ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة جاز أخذه في الجعالة .

( وهي عقد جائز ) من الطرفين ، بغير خلاف نعلمه كالمضاربة ( لكل واحد منهما فسخها ، فمتى فسخها العامل ) قبل تمام العمل ( لم يستحق شيئا ) لأنه أسقط حق نفسه ، حيث لم يأت بما شرط عليه كعامل المضاربة ( وإن فسخها الجاعل بعد الشروع فعليه للعامل أجرة عمله ) أي : أجرة مثله ; لأنه عمل بعوض فلم يسلم له ، ولو قيل : تسقط الأجرة لم يبعد ، وظاهره أنه إذا فسخ قبل التلبس بالعمل لا شيء للعامل ، فإن زاد أو نقص في الجعل قبل الشروع في العمل جاز ; لأنه عقد جائز فجاز فيه ذلك ، كالمضاربة ( وإن اختلفا في أصل الجعل ، أو قدره ، فالقول [ ص: 270 ] قول الجاعل ) لأنه منكر ، والأصل براءة ذمته ، وكذا الحكم إذا اختلفا في المسافة ، وقيل : يتحالفان إذا اختلفا في قدره والمسافة كالأجير ، فإذا تحالفا فسخ العقد ووجب أجر المثل ; لأنها عقد يجب المسمى في صحيحه ، فوجبت أجرة المثل في فاسده كالإجارة ، وقيل في آبق : المقدر شرعا ، ولا يستحق شيئا بلا شرط ، ذكره القاضي .

( ومن عمل لغيره عملا بغير جعل فلا شيء له ) بغير خلاف نعلمه ; لأنه بذل منفعته من غير عوض فلم يستحقه ، ولئلا يلزم الإنسان ما لم يلزمه ولم تطب نفسه به ، وهذا إذا لم يكن معدا لأخذ الأجرة ، فإن كان معدا لها وأذن له ؛ فله الأجرة ، لكن نص أحمد على أن من خلص متاعا لغيره يستحق أجرة مثله بخلاف اللقطة ( إلا في رد الآبق ) فإنه يستحق الجعل بلا شرط ، روي ذلك عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وقاله شريح ، وعمر بن عبد العزيز لئلا يلحق بدار الحرب ، أو يشتغل بالفساد ( فإن له بالشرع ) أي : بشرع الشارع ، للخبر الوارد فيه ( دينارا أو اثني عشر درهما ) جزم به في " الوجيز " وقدمه ، واختاره الأكثر لما روى ابن أبي مليكة ، وعمرو بن دينار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في رد الآبق إذا جاء به خارجا من الحرم دينارا ، وهو قول من سمينا ، ولم نعرف لهم مخالفا ، فكان كالإجماع بخلاف الشارد ، فإنه لا يفضي إلى ذلك ، وظاهره أنه يستحقه برده ، سواء كان من المصر أو خارجه ، وسواء كان الراد إماما أو غيره ، وهو مقتضى كلام جماعة ، ونقل حرب : لا يستحقه إمام ; لأنه ينبغي له رده على مالكه ، ونقل ابن منصور أن أحمد سئل عن جعل الآبق ، فقال : لا أدري قد [ ص: 271 ] تكلم الناس فيه ، لم يكن عنده فيه حديث صحيح ، فظاهره أنه لا شيء له في رده ، واختاره المؤلف تبعا لظاهر الخرقي ، وروي عن النخعي ، وابن المنذر ، والحديث الأول مرسل وفيه مقال ، وكما لو رد جمله الشارد ، ولأن الأصل عدم الوجوب ( وعنه : إن رده من خارج المصر فله أربعون درهما ) روي عن ابن مسعود واختاره الخلال ، قال أبو إسحاق : أعطيت الجعل في زمن معاوية أربعين درهما ، وهذا يدل على أنه مستفيض في العصر الأول ، وعنه : إن رده من المصر فعشرة ، قال الخلال : استقرت عليه الرواية ، وجزم به في " عيون المسائل " ، وأن الرواية الصحيحة من خارج المصر دينار ، أو عشرة دراهم ، وفي " الخصال " لابن البنا ، وكتاب " الروايتين " أنه عشرة دراهم مطلقا ، وبالغ القاضي في ذلك ، فقال : إن الرواية لا تختلف فيه ، ونقل ابن هانئ عن أحمد فيمن عمر قناة دون قوم أنه يرجع عليهم ، ذكره القاضي في " التعليق " ، وعلله بأن الآبار بمنزلة الأعيان ، فكما يرجع بالأعيان يرجع بها ، قاله الزركشي ، وهذا التعليل يقتضي الرجوع فيما عمله بأن يزيله ، كما يرجع في الأعيان ، لا أنه يرجع ببدل ذلك على مالك العين .

( ويأخذ منه ما أنفق عليه في قوته ) أي : يرجع بنفقته ; لأنه مأذون في الإنفاق شرعا ، لحرمة النفس بخلاف قضاء الدين بغير إذنه ، فإنه محل خلاف ، وظاهره أنه يرجع ولو لم يستحق جعلا كرده من غير بلد سماه ( وإن هرب منه في طريقه ) فإنها لا تسقط ، نص عليه ; لأنها وقعت مأذونا فيها شرعا ، أشبه ما لو وقعت بإذن المالك ثم هرب ، وقيل : إن نوى الرجوع ، وفي جواز استخدامه بها [ ص: 272 ] روايتان في " الموجز " ، و " التبصرة " ، وظاهره يقتضي أنه لا يستحق الجعل إلا برده لا بوجدانه ، وظاهر كلام جماعة أنه في مقابلة الوجدان ، فعليه هي بعد الوجدان كغيرها من اللقطات لصاحبها أخذها ، ولا يجب على الملتقط مؤنة ردها ، وجوابه أن المراد بالوجدان الوجدان المقصود ، لا مجرد الوجدان حتى لو ضاعت بعد أو تلفت استحق الجعل ; لأن هذا غير مقصود قطعا ، فإذن يرتفع الخلاف .

( وإن مات السيد استحق ذلك في تركته ) والمراد به الجعل ، قاله في " الشرح " ، وعلله بأنه عوض عن عمله ؛ فلا يسقط بالموت كالأجرة ، وسواء كان معروفا برد الآبق أو لا ، والظاهر من كلام المؤلف شموله للجعل والنفقة إذ لا مقتضى للتخصيص ; لأنه حق وجب في تركته كسائر الحقوق الثابتة ، وعلم منه جواز أخذ الآبق لمن وجده ، بخلاف الضوال التي تحفظ نفسها ، وهو أمانة ، ومن ادعاه فصدقه العبد أخذه ، فإن لم يجد سيده دفعه إلى الإمام أو نائبه ؛ ليحفظه لصاحبه ، وله بيعه لمصلحة بغير خلاف نعلمه ، فإن قال : كنت أعتقته ؛ فوجهان ، فإن قلنا : لا يقبل ، فليس لسيده أخذ ثمنه ، ويصرف لبيت المال ; لأنه لا مستحق له ، فإن عاد السيد فأنكر العتق وطلب المال دفع إليه ; لأنه لا منازع له ، وليس للملتقط بيعه ، ولا يملكه بعد تعريفه ; لأنه يحتفظ بنفسه فهو كضوال الإبل ، فإن باعه فهو فاسد في قول عامة العلماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية