صفحة جزء
[ ص: 312 ] كتاب الوقف

وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وفيه روايتان ، إحداهما : أنه يحصل بالقول والفعل الدال عليه مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس في الصلاة فيه ، أو يجعل أرضه مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها ، أو سقاية ويشرعها لهم ، والأخرى لا يصح إلا بالقول ، وصريحه : وقفت وحبست وسبلت ، وكنايته : تصدقت وحرمت وأبدت ، فلا يصح الوقف بالكناية إلا أن ينويه أو يقرن بها أحد الألفاظ الباقية أو حكم الوقف ، فيقول : تصدقت صدقة موقوفة ، أو محبسة ، أو مسبلة ، أو محرمة ، أو مؤبدة ، ولا تباع ولا توهب ولا تورث


كتاب الوقف

وهو مصدر وقف ، يقال : وقف الشيء ، وأوقفه ، وحبسه ، وأحبسه ، وسبله - كله بمعنى واحد ، لكن أوقف لغة شاذة عكس أحبسه ، وهو مما اختص به المسلمون ، قال الشافعي : لم يحبس أهل الجاهلية ، وإنما حبس أهل الإسلام ، وهو من القرب المندوب إليها ، والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمر ، قال : أصاب عمر أرضا بخيبر ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها ، فقال : يا رسول الله ، إني أصبت مالا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس عندي منه ، فما تأمرني فيه ؛ قال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، غير أنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث ، قال : فتصدق بها عمر في الفقراء ، وفي القربى ، والرقاب ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف ، أو يطعم صديقا غير متمول فيه ، وفي لفظ - غير متأثل - ، متفق عليه ، وقال جابر : لم يكن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذو مقدرة إلا وقف . ولم يره شريح ، وقال : لا حبس عن فرائض الله . قال أحمد : هذا مذهب أهل الكوفة ، ولعله في غير المساجد ونحوها .

قال القرطبي : لا خلاف بين الأئمة في تحبيس القناطر والمساجد ، واختلفوا في غير ذلك ، والأول قول أكثر العلماء سلفا وخلفا ، قال أحمد : من يرد الوقف إنما يرد السنة التي أجازها النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعلها أصحابه ، ومن الغرائب ما حكاه صاحب " المبسوط " أن لزوم الوقف من الأنبياء عليهم السلام خاصة ، وجوابه بأن الوقف قربة مندوب إليها ؛ لقوله تعالى : وافعلوا الخير [ الحج : 77 ] [ ص: 313 ] ( وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ) كذا في " التلخيص " و " الوجيز " ، ومرادهم بتسبيل المنفعة أن يكون على بر أو قربة ، وأحسنه حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ممنوع من التصرف في عينه بلا عذر ، مصروف منافعه في البر تقربا إلى الله تعالى ، وله أربعة أركان : الواقف ، وشرطه أن يكون جائز التصرف ، والموقوف عليه ، وما ينعقد به ، وسمي وقفا لأن العين موقوفة ، وحبسا لأن العين محبوسة ( وفيه روايتان ؛ إحداهما أنه يحصل بالقول والفعل الدال عليه ) عرفا ( مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس في الصلاة فيه ، أو يجعل أرضه مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها ) ، هذه الرواية ظاهر المذهب ، ونص عليها في رواية جماعة ; لأن العرف جار بذلك ، وفيه دلالة على الوقف ، فجاز أن يحصل به كالقول ، قال الشيخ تقي الدين : أو أذن فيه وأقام ، نقله أبو طالب وجعفر ، ولو نوى خلافه ( أو سقاية ويشرعها لهم ) ، أي للناس ، والمراد به البيت المبني لقضاء حاجة الناس ، وليس منصوصا عليه في كتب اللغة والغريب ، وإنما المذكور فيها أن السقاية - بكسر السين - الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها ( والأخرى لا يصح إلا بالقول ) ، ذكرها القاضي ، اختارها أبو محمد الجوزي ، وقد سأله الأثرم عن رجل أحاط حائطا على أرض ليجعلها مقبرة ونوى بقلبه ثم بدا له العود ؛ فقال : إن كان جعلها لله فلا يرجع ؛ ولأن هذا تحبيس على وجه القربة ، فوجب أن يتعين باللفظ كالوقف على الفقراء ، لكن قال في " المغني " : وهذه لا تنافي الأولى ، فإنه إن أراد بقوله : إن كان جعلها لله ، أي نوى بتحويطها جعلها لله ، فهذا تأكيد للأولى وزيادة عليها ، إذ منعه من الرجوع بمجرد التحويط مع النية ، وإن أراد بقوله : جعلها لله ، أي اقترنت بفعله [ ص: 314 ] قرائن دالة على ذلك من إذنه للناس في الدفن فيها - فهي عين الأولى ، وإن أراد أنه وقفها بقوله ، فيدل بمفهومه على أن الوقف لا يحصل بمجرد التحويط والنية ، وهذا لا ينافي الأولى ; لأنه فيها يضم إلى فعله إذنه للناس في الدفن ، ولم يوجد هنا ، فانتفت هذه الرواية للاحتمالات ، وصار المذهب رواية واحدة ، فصار بمنزلة من قدم إلى ضيفه طعاما كان إذنا في أكله ، ومن ملأ خابية ماء كان سبيلا له ، وكالبيع ، والهبة ، وأما الوقف على المساكين فلم تجر به عادة بغير لفظ .

فرع : الأخرس يصح وقفه بالإشارة المفهمة كغيره .

( وصريحه : وقفت ) ؛ لأنه موضوع له ، وكلفظة التطليق في الطلاق ( وحبست وسبلت ) ؛ لأنه ثبت لهما عوض في الشرع ، فمتى أتى بواحدة منها صار وقفا من غير انضمام أمر زائد ، ولو عبر بـ " أو " - كـ " الوجيز " و " الفروع " - لكان أولى ، وفي كلام بعضهم أن الصريح لا ينحصر في الثلاثة ، وفي " المغني " و " الكافي " إذا جعل علو موضع أو سفله مسجدا صح ، وكذا وسطه ، وإن لم يذكر استطراقا كبيعه فيتوجه منه الاكتفاء بلفظ يشعر بالمقصود ، وهو أظهر على أصلنا ، فيصح : جعلت هذا للمسجد أو فيه ، ونحوه ، وهو ظاهر نصوصه ، فيكون تمليكا للمسجد ، جزم به الحارثي ، أي للمسلمين لنفعهم به ، وظاهر كلام المؤلف لا يكون تمليكا ; لأنهم ذكروا في الإقرار له وجهين كالحمل .

( وكنايته : تصدقت ، وحرمت ، وأبدت ) ؛ لأنه لم يثبت لها عرف لغوي ولا شرعي ; لأن الصدقة تستعمل في الزكاة وهي ظاهرة في صدقة التطوع ، والتحريم يستعمل في الظهار ، والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم ، أو تأبيد الوقف ( فلا يصح الوقف [ ص: 315 ] بالكناية ) مجردة ، فعلى هذا لابد من انضمام شيء آخر إليها ليترجح إفادتها للوقف ، وأشار إليه بقوله : ( إلا أن ينويه ) فيصح ، ويكون على ما نوى ، إلا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر ( أو يقرن بها أحد الألفاظ الباقية ) من الصرائح والكناية ، وهي خمسة ، علم ذلك من تمثيله ; لأن اللفظ يترجح بذلك ؛ لإرادة الوقف ( أو ) يقرن به ( حكم الوقف ) فيقول : تصدقت صدقة موقوفة ، أو محبسة ، أو مسبلة ، أو محرمة ، أو مؤبدة ، هذا مثال للأول ( ولا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث ) ، هذا مثال للثاني ; لأن هذه القرينة تزيل الاشتراك ، وذكر أبو الفرج أن " أبدت " صريح ، وأن - صدقة موقوفة أو مؤبدة أو لا تباع - كناية .

التالي السابق


الخدمات العلمية