صفحة جزء
الثاني : أن يكون على بر ، كالمساكين والمساجد والقناطر والأقارب ، مسلمين كانوا أو من أهل الذمة ، ولا يصح على الكنائس ، وبيوت النار ، وكتابة التوراة ، والإنجيل ، ولا على حربي ولا مرتد ، ولا يصح على نفسه في إحدى الروايتين ، وإن وقف على غيره واستثنى الأكل منه مدة حياته صح .


والثاني : ذهاب العين بالانتفاع ، والوقف يستدعي بقاء أصل ينتفع به على ممر الزمان ، ولكن قد يقال : مادة الحصول من غير تأثير بالانتفاع تنزل منزلة بقاء العين مع الانتفاع ، وتأتي تتمة ذلك ( ويصح وقف المشاع ) في قول أكثر الفقهاء ؛ لما روى ابن عمر أن عمر قال : إن المائة سهم التي بخيبر لم أصب مالا قط [ ص: 317 ] أعجب إلي منها ، فأردت أن أتصدق بها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " احبس أصلها وسبل ثمرتها " . رواه النسائي وابن ماجه ، ولأنه عقد يجوز على بعض الجملة مفرزا ، فجاز عليه مشاعا كالبيع ، ويعتبر أن يقول كذا سهما من كذا سهم ، قاله أحمد ، قال في " الفروع " : ثم يتوجه أن المشاع لو وقف مسجدا أثبت حكم المسجد في الحال ، فيمنع منه الجنب ، ثم القسمة متعينة هنا كتعيينها طريقا للانتفاع بالموقوف ، وفي " الرعاية الكبرى " لو وقف نصف عبده صح ولم يسر إلى بقيته وإن كان لغيره ، فإن أعتق ما وقفه منه أو أعتقه الموقوف عليه لم يصح ولم يسر ، وإن أعتق الواقف بقيته ، وإن كان لغيره ، فإن أعتق ما وقفه منه ، أو أعتقه الموقوف عليه لم يصح ، ولم يسر ، وإن أعتق الواقف بقيته أو أعتقه شريكه فيه عتق بقيته ، ولم يسر إلى الموقوف ، وإن علق عتقه بصفة ثم وقفه قبلها صح وقفه .

( ويصح وقف الحلي على اللبس والعارية ) ؛ لما روى نافع أن حفصة ابتاعت حليا بعشرين ألفا حبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته ، رواه الخلال ؛ ولوجود الضابط ؛ ولأن فيه نفعا مباحا مقصودا ، فجاز أخذ الأجرة عليه ، وصح وقفه كوقف السلاح في سبيل الله ( وعنه : لا يصح ) ، نقلها الأثرم ، وحنبل ، قال في " المغني " و " الشرح " : وأنكر حديث حفصة ; لأن التحلي ليس هو المقصود الأصلي من الأثمان ، فلم يصح وقفها كالدنانير ، ورد بأن المفسد فيها عدم الانتفاع بعينها ، وهذا في الحلي معدوم ، قال في " التلخيص " : وهو محمول على رواية منع وقف المنقول ، وذكر القاضي في " تعليقه " رواية الأثرم وحنبل ، ولفظها : [ ص: 318 ] لا أعرف الوقف في المال ، فإن لم يكن في الرواية غير هذا ففي أخذ المنع منه نظر ، قاله الزركشي .

( ولا يصح الوقف في الذمة كعبد ودار ) ؛ لأنه نقل ملك على وجه القربة ، فلم يصح في غير معين كالهبة ( ولا ) وقف ( غير معين كأحد هذين ) العبدين ؛ لما ذكرنا ، وفيه احتمال في العتق ، فيخرج المبهم منهما بالقرعة ، ( ولا وقف ما لا يجوز بيعه كأم الولد ) ؛ لأنه نقل للملك فيها في الحياة ، فلم يجز كالبيع ، وفيه وجه ، وقيده ابن حمدان إن صح بيعها ( والكلب ) ؛ لأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، والكلب أبيح الانتفاع به على خلاف الأصل ؛ للضرورة ، فلم يجز التوسع فيها ، وكذا لا يصح وقف الحمل منفردا ( ولا ) يصح وقف ( ما لا ينتفع به مع بقائه دائما ، كالأثمان ) وهي الدنانير والدراهم ، ( والمطعوم ، والرياحين ) في قول عامة العلماء ; لأن ما لا ينتفع به إلا بالإتلاف لا يصح وقفه كالشمع ليشعله ، وقيل : يصح في الأثمان بناء على إجارتها ، ورد ؛ لأن تلك المنفعة ليست المقصودة التي خلقت له الأثمان ، فلم يجز الوقف له كوقف الشجر على نشر الثياب ، ويستثنى منه لو وقف فرسا بسرج ولجام مفضضين ، فإنه يصح ويدخل تبعا ، نص عليه ، أما لو وقفهما للتحلي والوزن ، فاختار صاحب " التلخيص " الصحة كإجارتها لذلك ، واختار المؤلف وجمع ضدها ; لأن ذلك ليس من المرافق العامة ، فإن أطلق بطل ، وقيل : يصح ويحمل عليهما .

مسألة : لا يصح وقف قنديل نقد على مسجد ، ويزكيه ربه ، وقيل : يصح فيكسر ، ويصرف لمصلحته ، وقال ابن المنجا : تمثيله بالمطعوم والرياحين فيه نظر [ ص: 319 ] من جهة أنهما لا يبقيان ، فيحذفان ، ويقتصر على التمثيل بالأثمان ، أو يبقيان مع حذف " مع بقائه " فإنه يصح أن يقال : إنهما لا ينتفع بهما دائما ; لأن نفعهما يحصل في بعض الزمن ، وعلم منه أن وقف ما لا منفعة فيه كالعين المؤجرة لا يصح ؛ لعدم وجود المعنى ، نعم إن وقفها مدة الإجارة إذا انقضت صح إن قيل : يصح تعليق الوقف على شرط . ( الثاني أن يكون على بر ) ومعروف إذا كان الوقف على جهة عامة ; لأن المقصود منه التقرب إلى الله تعالى ، وإذا لم يكن على بر لم يحصل المقصود ( كالمساكين والمساجد ) ، فإذا قال : جعلت ملكي للمسجد - صار حقا من حقوقه ، ولا يعتبر قبول ناظره ؛ لتعذره بالقبول كحالة وقف المسجد ، فإنه لا يشترط قبوله ; لأن الناظر لا يكون إلا بعد الوقف ( والقناطر ) والسقايات ، والمقابر ، وكتب العلم ( والأقارب مسلمين كانوا أو من أهل الذمة ) ، نص عليه ; لأن القريب الذمي موضع القربة ؛ بدليل جواز الصدقة عليه ، ويصح الوقف على أهل الذمة ، جزم به الأكثر ; لأن صفية وقفت على أخ لها يهودي ، ولأنهم يملكون ملكا محترما ، ولأن من جاز أن يقف عليه الذمي جاز أن يقف المسلم عليه كالمسلم ، وصحح الحلواني على فقرائهم ، وصححه في " الواضح " من ذمي عليهم وعلى بيعة وكنيسة ، ومقتضى كلام صاحب " التلخيص " و " المحرر " أنه لا يصح الوقف عليهم ; لأن الجهة معصية بخلاف أقاربه ، وإن وقف ذمي على ذمي شيئا وشرط أنه يستحقه ما دام ذميا فأسلم - فله أخذه أيضا ; لأن الواقف عينه له ، ويلغو شرطه ، ورده في " الفنون " ، وقيل : يشترط أن لا يكون معصية ، فيصح في المباح كالوقف على الأغنياء ، وقيل : ومكروه .

[ ص: 320 ] فائدة : يصح الوقف على الصوفية ، وهم المشتغلون بالعبادات في غالب الأوقات ، المعرضون عن الدنيا ، قال الشيخ تقي الدين : فمن كان منهم جماعا للمال ، أو لم يتخلق بالأخلاق المحمودة ، ولا تأدب بالآداب الشرعية غالبا ، أو فاسقا - لم يستحق ، ولم يعتبر الحارثي الفقر ، قال في " الفروع " : ويتوجه احتمال لا يصح عليهم ؛ ولهذا قال الإمام : ما رأيت صوفيا إلا سلما الخواص ، قاله أبو محمد الجويني ، إذ ليس له حد يعرف به .

( ولا يصح على الكنائس وبيوت النار ) والبيع ; لأن ذلك معصية ؛ لكون أن هذه المواضع بيت للكفر ، والمسلم والذمي سواء ، قال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا ، والضياع بيد النصارى ، فلهم أخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم ، وحكم الوقف على قناديل البيعة ومن يخدمها ويعمرها كالوقف عليها ، قاله في " المغني " و " الشرح " ، وإن قال : أنت حر بشرط أن تخدم الكنيسة سنة بعد موتي ، وهما نصرانيان ، فأسلم العبد قبل تمامها - عتق في الحال ، وعنه : تلزمه القيمة لبقية الخدمة ، وعنه : لا ، وهي أصح وأوفق لأصوله ( وكتابة التوراة والإنجيل ) للإعانة على المعصية ، فإنها منسوخة ، وقد بدل بعضها ، غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رأى مع عمر شيئا استكتبه منها ، وقال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب ! ألم آت بها بيضاء نقية ؛ ، ولو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي . وكتب الزندقة من باب أولى ، ( ولا على حربي ولا مرتد ) ؛ لأن أموالهما مباحة في الأصل ، تجوز إزالتها فيما يتجدد [ ص: 321 ] لهم أولى ، ولانتفاء الدوام لأنهما مقتولان عن قرب .

تنبيه : لا يصح الوقف على قطاع الطريق ، ولا على المغاني ، ولا التنوير على قبر وتبخيره ، ولا على من يقيم عنده ، أو يخدمه ، ولا وقف ستور لغير الكعبة ، وصححه ابن الزاغوني ، فيصرف لمصلحته ، ذكره ابن الصيرفي ( ولا يصح على نفسه في إحدى الروايتين ) ، قال في رواية أبي طالب : لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله تعالى ، أو في سبيله ، فإن وقفه عليه حتى يموت فلا أعرفه ، فعليها يكون باطلا ، وجزم به الأكثر ، وقدمه في " الفروع " ; لأن الوقف تمليك إما للرقبة أو للمنفعة ، وكلاهما لا يصح ; لأن الإنسان لا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه ، كما لا يجوز أن يبيع ماله من نفسه ، والأصح أنه يصرف لمن بعده في الحال ، والثانية : يصح ، ذكره في " المذهب " ظاهر المذهب ، واختاره ابن أبي موسى ، وابن عقيل ، وأبو المعالي ، والشيخ تقي الدين ; لأنه يصح أن يقف وقفا فينتفع به ، كذلك إذا خص نفسه بانتفاعه ، وكشرط غلته له ، ومتى حكم به حاكم حيث يجوز له الحكم ، وظاهر كلامهم ينفذ حكمه ظاهرا ; لأنها مسألة اجتهادية ، وهل ينفذ باطنا ؛ فيه خلاف .

( وإن وقف على غيره واستثنى ) كل الغلة أو بعضها له أو لولده ( الأكل منه مدة حياته ) أو مدة معلومة ( صح ) الوقف والشرط ، نص عليه ، واحتج بأنه قال : سمعت ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه عن حجر المدري أن في صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل أهله منها بالمعروف . وشرط عمر أكل الوالي عليها ، وكان هو الوالي عليها ، وفعله جماعة من الصحابة ، وقيل : [ ص: 322 ] لا يصح الوقف ; لأنه إزالة ملك ، فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه ، كالبيع ، وقيل : لا يصح شرطه ، فإن صح فمات في أثناء المدة كان لورثته ، ويصح إجارتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية