صفحة جزء
فصل

ولا يشترط القبول إلا أن يكون على آدمي معين ، ففيه وجهان ، أحدهما : يشترط ذلك ، فإن لم يقبله أو رده بطل في حقه دون من بعده ، وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز يصرف في الحال إلى من بعده ، وفيه وجه آخر إن كان من لا يجوز الوقف عليه يعرف انقراضه كرجل معين يصرف إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن ينقرض ثم يصرف إلى من بعده ، وإن وقف على جهة تنقطع ولم يذكر مآلا أو على من يجوز ثم على من لا يجوز أو قال : وقفت ، وسكت - انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى ورثة الواقف وقفا عليهم في إحدى الروايتين ، والأخرى إلى أقرب عصبته ، وهل يختص به فقراؤهم ؛ على وجهين ، وقال القاضي في موضع : يكون وقفا على المساكين ، وإذا قال : وقفت داري سنة لم يصح ، ويحتمل أن يصح ، ويصرف بعدها مصرف المنقطع ، ولا يشترط إخراج الوقف على يده في إحدى الروايتين .


فصل

( ولا يشترط القبول ) إذا كان على غير معين كالمساكين أو من لا يتصور منه القبول كالمسجد والقناطر ; لأنه لو اشترط لامتنع صحة الوقف فيه ، ويلزم بمجرد الإيجاب ، وذكر صاحب النظم احتمالا يقبله نائب الإمام ( إلا أن يكون على آدمي معين ، ففيه وجهان ، أحدهما : يشترط ذلك ) ، صححه صاحب " النهاية " ؛ لأنه تبرع ، فكان من شرطه القبول كهبة ووصية ، ولو على التراخي ، وقال الشيخ تقي الدين : وأخذ ريعه قبول ، والثاني - وهو المذهب ، واختاره القاضي ، وجزم به في " الوجيز " - أنه لا يشترط ذلك ; لأنه إزالة ملك يمنع البيع ، فلم يعتبر فيه القبول كالعتق ، والفرق أن الوقف لا يختص المعين بل يتعلق به حق من يأتي من البطون في المستقبل ، فيكون الوقف على جميعهم ، إلا أنه مرتب ، فصار كالوقف على الفقراء ، قال ابن المنجا : وهذا الفرق موجود بعينه في الهبة [ ص: 325 ] والأشبه أنه ينبني ذلك على الملك هل ينتقل إلى الموقوف عليه أم لا ؛ فعلى هذا لا يبطل بالرد كالعتق ، وعلى الأول ( فإن لم يقبله أو رده بطل في حقه ) ؛ لأنه تمليك لم يوجد شرطه أشبه الهبة ، لكن اختلفوا فيما إذا رد ثم قبل هل يعود أم لا ؛ قاله الشيخ تقي الدين ( دون من بعده ) ؛ لأن المبطل وجد في الأول فاختص به ، وصار كالوقف المنقطع الابتداء ، يخرج في صحته في حق من سواه وبطلانه وجهان مبنيان على تفريق الصفقة ، والأصح صحته لتعذر استحقاقه لفوت وصف فيه ، وأشار إليه بقوله ( وكان كما لو وقف على من لا يجوز ) كالمجهول ( ثم على من يجوز ) كالمساكين ( يصرف في الحال إلى من بعده ) ؛ لأن الواقف قصد صيرورة الوقف إليه في الجملة ولا حالة يمكن انتظارها ، فوجب الصرف إليه ؛ لئلا يفوت غرض الواقف ، ولئلا تبطل فائدة الصحة ( وفيه وجه آخر ) ، قال ابن حمدان : وهو أصح وأشهر ( إن كان من لا يجوز الوقف عليه يعرف انقراضه كرجل معين ) أي كعبده ، وأم ولده ; لأنه أحد نوعي الوقف ( يصرف إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن ينقرض ) ؛ لأنها إحدى حالتي الانقطاع أشبه الأخرى ( ثم يصرف إلى من بعده ) ، أي من يجوز عليه الوقف ; لأنه مرتب ( وإن وقف على جهة تنقطع ) كأولاده ; لأنه بحكم العادة يمكن انقراضهم ( ولم يذكر مآلا ) المآل - بهمزة مفتوحة بعد الميم المفتوحة - المرجع ( أو على من يجوز ) الوقف كأولاده ( ثم على من لا يجوز ) كالكنائس ( أو قال : وقفت ، وسكت ، انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه ) قد [ ص: 326 ] تضمن هذا صحة الوقف ، قال في " الرعاية " في الأصح ، وقال محمد بن الحسن : لا يصح ; لأن الوقف مقتضاه التأبيد ، فإذا كان منقطعا صار وقفا على مجهول ، وجوابه أنه معلوم المصرف ، فصح كما لو صرح بمصرفه ، إذ المطلق يحمل على العرف كنقد البلد ، وحينئذ يصرف ( إلى ورثة الواقف ) نسبا ، قاله في " الوجيز " و " الفروع " - بقدر إرثهم ( وقفا عليهم في إحدى الروايتين ) ، وفي " الكافي " هي ظاهر المذهب ، وجزم بها في " الوجيز " ، وقدمها في " الفروع " ; لأن الوقف مصرفه البر ، وأقاربه أولى الناس ببره ؛ لقوله عليه السلام : إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ، ولأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات ، فكذا صدقته المنقولة ( والأخرى ) يصرف ( إلى أقرب عصبته ) ؛ لأنهم أحق أقاربه ببره ؛ لقوله عليه السلام : " ابدأ بمن تعول ، أمك ، وأباك ، وأختك ، وأخاك ، ثم أدناك أدناك رواه النسائي ، فيحتمل أن يكون ملكا لهم ، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى ، وظاهر الخرقي عكسه ، والمذهب أنه يكون وقفا عليهم ; لأن الملك زال عنه بالوقف ، فلا يعود ملكا لهم ، وعنه : ملكا ، ويحتمله كلام الخرقي في الورثة ( وهل يختص به فقراؤهم على وجهين ) أحدهما ، وهو ظاهر كلام الإمام ، والخرقي ، والمجد أنه لا يختص بهم بل يشمل الفقير والغني منهما ; لأنه لو وقف على أولاده شملهما ، فكذا هنا ، والثاني - واختاره القاضي في الروايتين - أنه يختص الفقراء منهم ؛ إذ القصد بالوقف البر والصلة ، والفقراء أولى بهذا المعنى من غيرهم ، ونص على أنه يصرف في مصالح المسلمين ( وقال القاضي في موضع ) وهو " الجامع الصغير " ، والشريف أبو جعفر ، وإليه ميل المؤلف ، وهو رواية ( يكون وقفا على المساكين ) ، قال في " الشرح " [ ص: 327 ] وهو أعدل الأقوال ; لأنهم أعم جهات الخير ، ومصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها ، فإن كان للواقف أقارب مساكين كانوا أولى به استحبابا ، كصلاته ، وحيث قلنا إلى الأقارب فانقرضوا ، أو لم يوجد له قريب ، فإنه يصرف لبيت المال ، نص عليه في رواية أبي طالب ، وقطع به أبو الخطاب والمجد ; لأنه مال لا مستحق له ، وقال الأكثر : يرجع إلى الفقراء والمساكين ؛ إذ القصد بالوقف الصدقة الدائمة ؛ لقوله عليه السلام : أو صدقة جارية . وقال ابن أبي موسى : يباع ويجعل ثمنه للمساكين ، ونقل حرب عنه مثله ، وعنه : يرجع إلى ملك واقفه الحي ، قال ابن الزاغوني في " الواضح " : الخلاف في الرجوع إلى الأقارب ، أو إلى بيت المال ، أو إلى المساكين مختص بما إذا مات الواقف ، أما إن كان حيا فانقطعت الجهة ، فهل يعود الوقف إلى ملكه أو إلى عصبته ؛ فيه روايتان ، وظاهر المتن أن المسائل الثلاث على سنن واحد ، وأن الخلاف فيها ، وفي " الشرح " إذا قال : وقفت هذا وسكت ، أو صدقة موقوفة - أنه لا نص فيها . وقال ابن حامد : يصح ، وهو قياس قول أحمد في النذر المطلق ، فإنه ينعقد موجبا للكفارة ، وفي " الفروع " وكذا إذا قال : وقفه ، ولم يزد . وقال القاضي وأصحابه : إنه يصرف في وجوه البر ، وفي " عيون المسائل " : فيها وفي تصدقت به لجماعة المسلمين ، وفي " الروضة " : إن قال : وقفته ، صح في الصحيح عندنا .

تنبيه : للوقف أربعة أحوال : متصل الابتداء والانتهاء ، ولا إشكال في صحته ، ومنقطع الانتهاء ، وهو صحيح في الأصح ، ومنقطع الابتداء متصل الانتهاء ، ومتصل الابتداء والانتهاء منقطع الوسط ، والمذهب صحتهما ، وقيل بالبطلان بناء على تفريق الصفقة .

[ ص: 328 ] مسألة : لو وقف على الفقراء ثم على ولده صح لهم دونه ، وقيل : وعليه كما لو وقف على فقراء بلد معين ( وإذا قال : وقفت داري سنة لم يصح ) ؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد ، وهذا ينافيه ، فلو قال : وقفت هذا على ولدي سنة ثم على المساكين صح ( ويحتمل أن يصح ) ؛ لأنه منقطع الانتهاء ، وقد بينا صحته ( و ) حينئذ ( يصرف بعدها ) أي بعد السنة ( مصرف المنقطع ) أي منقطع الانتهاء ( ولا يشترط إخراج الوقف عن يده في إحدى الروايتين ) في ظاهر المذهب ; لأن الوقف يزول به ملك الواقف ، ويلزم بمجرد اللفظ ؛ لحديث عمر السابق ، ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة ، فيلزم بمجرده كالعتق ، والثانية لا يلزم إلا بالقبض وإخراج الوقف عن يده ، اختارها ابن أبي موسى ، وقاله محمد بن الحسن ; لأنه تبرع بمال لم يخرجه عن المالية ، فلم يلزم بمجرده كالهبة ، فلو شرط نظره له سلمه ليد غيره ثم ارتجعه ، وأجيب بالفرق ، فإنها تمليك مطلق ، والوقف تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة فهو بالعتق أشبه ، فإلحاقه به أولى ، وعلم منه أن الخلاف في لزوم الوقف ، وهو ظاهر كلام الأكثر ، وصرح في " الهداية " أنه في الصحة ، ولعله ظاهر المتن .

التالي السابق


الخدمات العلمية