صفحة جزء
فصل

والوقف عقد لازم ، ولا يجوز فسخه بإقالة ولا غيرها ، ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه ، فيباع ويصرف ثمنه في مثله ، وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد ، وكذلك المسجد إذا لم ينتفع به في موضعه ، وعنه : لا تباع المساجد لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر


فصل

( والوقف عقد لازم ) أي يلزم بمجرد القول ; لأنه تبرع يمنع البيع والهبة ، فلزم بمجرده كالعتق ، وقال في " التلخيص " وغيره : وحكمه اللزوم في الحال ، أخرجه مخرج الوصية أو لم يخرجه ، حكم به حاكم أو لا ؛ لقوله عليه السلام " لا يباع أصلها ، ولا يوهب ، ولا يورث . قال الترمذي : العمل على هذا الحديث [ ص: 353 ] عند أهل العلم ، وإجماع الصحابة على ذلك ، ولأنه إزالة ملك يلزم بالوصية ، فإذا نجزه في الحياة لزم من غير حكم كالعتق ، وذهب أبو حنيفة - رضي الله عنه - أنه لا يلزم بمجرده ، وللواقف الرجوع فيه إلا أن يوصي به بعد موته ، أو يحكم بلزومه حاكم ، وحكاه بعضهم عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، واحتج له بما رواه المحاملي عن عبد الله بن زيد صاحب الأذان أنه جعل حائطه صدقة ، وجعله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء أبواه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا : لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط ، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ماتا فورثهما ؛ ولأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يلزم بمجرده كالصدقة ، وجوابه السنة الثابتة ، مع أن هذا الخبر ليس فيه ذكر الوقف ، والظاهر أنه جعله صدقة غير موقوف ، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - والديه أحق بصرفها إليهما ، بدليل أنه لم يردها إليه ، ويحتمل أن الحائط كان لهما ، وتصرفه فيه بحكم النيابة عنهما ، ولم يجيزاه ، ثم القياس على الصدقة ليس بظاهر ، فإنها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم ، وإنما يفتقر إلى القبول ، والوقف لا يفتقر إليه ، فافترقا ، ( ولا يجوز فسخه بإقالة ولا غيرها ) ؛ لأن ذلك شأن العقود المقتضية للتأبيد ( ولا يجوز بيعه ) ولا المناقلة به ( إلا أن تتعطل منافعه ) بالكلية ، كدار انهدمت ، أو أرض خربت ، وعادت مواتا ، ولم تمكن عمارتها ، نقل علي بن سعيد : لا يستبدل به ولا يبيعه إلا أن يكون بحال لا ينتفع به ، ونقل أبو طالب : لا يغير عن حاله ، ولا يباع إلا أن لا ينتفع منه بشيء ، وقاله الأصحاب ، وفي " المغني " و " الشرح " إلا أن يقل فلا يعد نفعا ، ونقل مهنا : أو ذهب أكثر نفعه ( فيباع ) ؛ لما روي أن عمر كتب إلى سعد لما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب : أن انقل المسجد الذي بالتمارين ، واجعل بيت المال في قبلة [ ص: 354 ] المسجد ، فإنه لن يزال في المسجد مصل ، وكان هذا بمشهد من الصحابة ، ولم يظهر خلافه ، فكان كالإجماع ، وحكى في " التلخيص " عن أبي الخطاب أنه لا يجوز بيعه ، وهو غريب لا يعرف في كتبه ; لأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز مع تعطلها ، كالعتق ، وجوابه بأن فيما ذكرناه استبقاء للوقف عند تعذر إبقائه بصورته ، فوجب ذلك كما لو استولد الجارية ، أو قتلها ، أو قتلها غيره . وقال ابن عقيل : الوقف مؤبد ، فإذا لم يكن تأبيده على وجه تخصيصه استبقينا الغرض ، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى ، واتصال الأبدال جرى مجرى الأعيان ، وجمودنا على العين مع تعطيلها تضييع للغرض . قولهم : يباع ، أي يجوز بيعه ، نقله وذكره جماعة ، وظاهر رواية الميموني يجب ; لأن الولي يلزمه فعل المصلحة ؛ ولأنه استبقاء للوقف بمعناه ، فوجب كإيلاد أمة موقوفة ، وقال الشيخ تقي الدين : مع الحاجة تجب بالمثل ، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة ، ولا يجوز بمثله لفوات التعيين بلا حاجة ، فإن أمكن بيع بعضه ليعمر به الباقي جاز ، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه ، ذكره في " المغني " و " الشرح " قال في " الفروع " : والمراد مع اتحاد الواقف كالجهة ، ثم إن كان المراد عينين كدارين فظاهر ، وكذا عينا واحدة ، ولم تنقص القيمة بالتشقيص ، فإن نقصت توجه البيع في قياس المذهب ، كبيع وصي لدين أو حاجة صغير ، بل هذا أسهل لجواز تغيير صفاته لمصلحة . وذكر الحافظ ابن رجب أن عبادة - من أصحابنا - أفتى في أوقاف وقفها جماعة على جهة واحدة من جهات البر إذا خرب بعضها للمباشر أن يعمره من الأجرة ، ووافقه طائفة من الحنفية [ ص: 355 ] تنبيه : لم يتعرض المؤلف للمتولي لبيعه ، والأشهر أنه الحاكم ، قدمه في " الفروع " ، وفي " التلخيص " ويكون البائع الإمام أو نائبه ، نص عليه ، وكذلك الشراء بثمنه ، وهو ظاهر ما في " المغني " و " الشرح " ; لأنه فسخ لعقد لازم مختلف فيه اختلافا قويا ، فيتوقف فسخه على الحاكم كما قيل في الفسوخ المختلف فيها ، ولكونه بيعا على الغائبين ، وهم الذين يستحقونه بعد انقراض الموجودين ، وجزم في " المحرر " و " الرعاية " و " الفائق " أنه ناظره ، وقيل : بل يفعله الموقوف عليه إن قلنا : يملكه .

فرع : لو شرط الواقف أنه لا يباع فخرب ، يباع وشرطه إذن فاسد ، نص عليه ، قال حرب : قلت لأحمد : رجل وقف ضيعة فخربت ، وقال في الشرط : لا يباع ، فباعوا منها سهما وأنفقوه على البقية ليعمروها ، قال : لا بأس بذلك إذا كان كذلك ; لأنه اضطرار ومنفعة لهم .

( ويصرف ثمنه في مثله ) كذا في " المحرر " و " الوجيز " و " الفروع " ، وزاد : أو بعض مثله ، قاله أحمد ; لأنه أقرب إلى غرض الواقف وكجهته ، وظاهر الخرقي أنه لا يتعين المثل ، واقتصر عليه في " المغني " و " الشرح " إذ القصد النفع ، لكن يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأولى تصرف إليها ; لأن تغيير المصرف مع إمكان المحافظة عليه لا يجوز ، كما لا يغير الوقف بالبيع مع إمكان الانتفاع به ، وقوة كلامه - وهو ظاهر الخرقي - أنه لابد من إيقاف الناظر له ، وصرح في " الرعاية " أنه يصير وقفا بمجرد الشراء ، وجوزهما الشيخ تقي الدين لمصلحة ، وأنه قياس الهدي ، وذكره وجها في المناقلة ، وأومأ إليه أحمد ، ( وكذلك الفرس [ ص: 356 ] الحبيس إذا لم يصلح للغزو ) بأن ينحطم ( بيع ) كالوقف إذا تعطلت منافعه ( واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد ) ، نص عليه محافظة على غرض الواقف ، وعنه : يصرفه على الدواب الحبس ، أو ثمنه في مثله ، وظاهره التخيير . وعلى الأول إن لم يكن ثمنه ثمن فرس أخرى أعين به في شراء فرس حبيس ، نص عليه ، ذكره في " المغني " و " الشرح " ; لأن المقصود استيفاء منفعة الوقف الممكن استيفاؤه وصيانتها عن الضياع ، ( وكذلك المسجد إذا لم ينتفع به في موضعه ) فإنه يباع إذا خربت محلته ، نقله عبد الله ، ذكره جماعة ، وفي رواية صالح يحول المسجد خوفا من اللصوص ، وإذا كان في موضعه قدر ، وقال القاضي : يعني إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه . ونص على جواز بيع عرصته ، وتكون الشهادة على الإمام ، ( وعنه : لا تباع المساجد ) ، نقلها علي بن سعيد ; لأنها آكد من غيرها ( لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر ) ، اختاره أبو محمد الجوزي ; لأنه أقرب إلى غرض الواقف ، لكن نقل جعفر فيمن جعل خانا في السبيل وبنى بجنبه مسجدا فضاق ، أيزاد منه في المسجد ؛ قال : لا ، قيل : فإنه ترك ليس ينزل فيه ، فقد عطل قال : يترك على ما صير إليه ، ولا يجوز نقله مع إمكان عمارته ، قاله في " الفنون " ، وإن جماعة أفتوا بخلافه وغلطهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية