صفحة جزء
ولا يجوز تعليقها على شرط ، ولا شرط ما ينافي مقتضاها نحو ألا يبيعها ولا يهبها ، ولا توقيتها كقوله : وهبتك هذا سنة إلا في العمرى ، وهو أن يقول : أعمرتك هذه الدار ، أو أرقبتكها ، أو جعلتها لك عمرك أو حياتك ، فإنه يصح ، وتكون للمعمر ولورثته من بعده ، وإن شرط رجوعها إلى المعمر عند موته أو قال : هي لآخرنا موتا - صح الشرط ، وعنه : لا يصح ، وتكون للمعمر ولورثته من بعد .


( ولا يجوز تعليقها على شرط ) ، جزم به أكثر الأصحاب ; لأنها تمليك لمعين في الحياة ، فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع ، وما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن رجعت هديتنا إلى النجاشي فهي لك ، وعد لا هبة ، واستثنى في " الفروع " وسبقه إليه ابن شهاب والقاضي غير الموت ، أي موت المبرئ .

تنبيه : لا يصح تعليق الإبراء بشرط ، نص عليه فيمن قال : إن مت فأنت في حل ; لأنه إن كان تمليكا فكتعليق الهبة ، وإلا فقد يقال : هو تمليك من وجه ، والتعليق مشروع في الإسقاط المحض فقط ، فإن ضم التاء فوصية ، وعن [ ص: 368 ] أحمد أنه جعل رجلا في حل من عيبه بشرط أن لا يعود ، قال : ما أحسن الشرط ، فيتوجه فيهما روايتان ، وذكر الحلواني صحة الإبراء بشرط ، واحتج بنصه المذكور .

( ولا شرط ما ينافي مقتضاها نحو أن لا يبيعها ولا يهبها ) ، أو بشرط أن يبيعها ، أو يهبها ، أو يهب فلانا شيئا لم يصح الشرط رواية واحدة ، وكذا الهبة ، وفيها وجه بناء على الشروط الفاسدة في البيع ، وإن وهب أمة ، واستثنى حملها صح في قياس قوله في العتق ، وفيه تخريج ( ولا توقيتها ) خلافا للحارث ( كقوله : وهبتك هذا سنة ) ؛ لأنه تعليق لانتهاء الهبة ، وقيل : يلغو توقيته . وتصح الهبة مطلقا ( إلا في العمرى ) والرقبى ، فإنهما نوعان من الهبة ، ويصح توقيتهما ، سميت عمرى لتقييدها بالعمر ، وسميت رقبى لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه ( وهو أن يقول أعمرتك هذه الدار ) أو أعطيتك ( أو أرقبتكها ) قال ابن القطاع : أرقبتك أو أعطيتك ، وهي هبة ترجع إلى المرقب إن مات المرقب ، وقد نهى عنه ، والفاعل منهما معمر ، ومرقب - بكسر الميم والقاف - والمفعول بفتحهما ، وقال أبو السعادات : يقال : أعمرته الدار أي جعلتها له يسكنها مدة عمره فإذا مات عادت إلي ، كذا كانوا يفعلونه في الجاهلية ، فأبطل ذلك الشرع ، وأعلمهم أن من أعمر شيئا أو أرقبه في حياته فهو له ولورثته من بعده ( أو جعلتها لك عمرك ) أو عمري ( أو حياتك ) أو ما بقيت ( فإنه ) أي ذلك وهو العمرى والرقبى ( يصح ) في قول أكثر العلماء ، وحكي عن بعضهم ضده ؛ لقوله عليه السلام : لا تعمروا ولا ترقبوا ، هذا نهي وهو يقتضي الفساد ، وجوابه [ ص: 369 ] ما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العمرى جائزة لأهلها ، والرقبى جائزة لأهلها ، رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، والنهي ورد على وجه الإعلام لهم أنكم إن أعمرتم أو أرقبتم نفذ للمعمر والمرقب ولم يعد إليكم منه شيء ، بدليل حديث جابر مرفوعا : من أعمر عمرى فهي لمن أعمرها حيا وميتا ، ولعقبه ، رواه مسلم . ولو أريد به حقيقة لم يمنع صحته كطلاق الحائض ، وصحة العمرى ضرر على المعمر ، فإن ملكه يزول بغير عوض ، قاله في " المغني " و " الشرح " ، ( وتكون للمعمر ) - بفتح الميم - ملكا في قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم ؛ لما روى جابر قال : قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لمن وهبت له ، متفق عليه ، ورواه مالك في " الموطأ " . ( ولورثته من بعده ) ؛ لما روى زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العمرى للوارث ; لأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك ، وتنتقل إلى الورثة ، فلم يكن تقديره بحياته منافيا لحكم الأملاك ، فإن عدموا فلبيت المال دون ربها ، نص عليه ، ومقتضاه أنه إذا أضافها إلى عمر غيره أنها لا تصح ، وعنه : يرجع بعد موت المعمر إلى المعمر ، وقاله الليث ، لقول جابر : إنما العمرى التي أجازها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : هي لك ولعقبك ، أما إذا قال : هي لك ما عشت ، فإنها ترجع إلى صاحبها ، وليس بظاهر ، مع أنه حمل قوله على تمليك المنافع ، وجوابه بأنه قضى بها طارق بالمدينة بأمر عبد الملك بن مروان ، وقول بعضهم : إنها تمليك المنافع ، لا يضر إذا نقلها الشارع إلى تمليك الرقبة كالمنقولات الشرعية ، أما لو قالوا : أعمرتك هذه الدار ولعقبك فلا خلاف عندنا في الصحة كما اقتضاه كلامه في " الكافي " وذكر العقب تأكيد .

[ ص: 370 ] تنبيه : ليس ذلك خاصا بالعقار ، بل يجري فيه وفي الحيوان والثياب ، نقل يعقوب وابن هانئ من يعمر الجارية أيضا ؛ قال : لا أراه ، وحمله القاضي على الورع ; لأن بعضهم جعلها تمليك المنافع ، وروى سعيد بإسناده عن الحسن أن رجلا أعمر فرسا حياته ، فخاصمه بعد ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عليه السلام : من ملك شيئا حياته فهو لورثته بعده ، والإنسان إنما يملك الشيء عمره ، فقد وقته بما هو مؤقت به في الحقيقة فصار كالمطلق .

( وإن شرط رجوعها إلى المعمر عند موته ) إن مات قبله ، أو إلى غيره ، وتسمى الرقبى ، أو رجوعها مطلقا إليه ، أو إلى ورثته ( أو قال : هي لآخرنا موتا ، صح الشرط ) كالعقد على الأصح ؛ لقوله عليه السلام : المسلمون على شروطهم . قال القاسم : ما أدركت الناس إلا على شروطهم ، وحينئذ يعمل بالشرط ( وعنه : لا يصح ) الشرط ، نص عليه في رواية أبي طالب ، وفي " المغني " هو ظاهر المذهب ، وقدمه في " المحرر " و " الفروع " ؛ لما روى أحمد بإسناده مرفوعا ، قال : لا عمرى ولا رقبى ، فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته وموته ، وهذا صريح في إبطال الشرط ; لأن الرقبى يشترط فيها عودها إلى المرقب إن مات الآخر قبله ( وتكون للمعمر ولورثته من بعده ) ؛ لقوله عليه السلام : من ملك شيئا حياته فلورثته بعد موته ، وعنه : بطلانهما كالبيع .

فرع : إذا قال : سكناه لك عمرك ، أو غلته ، أو خدمته لك ، أو منحتكه - فهو عارية ، نقله الجماعة ; لأنه في التحقيق هبة المنافع ، والمنافع إنما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا ، وتبطل بموت أحدهما .

[ ص: 371 ] تنبيه : إذا وهب أو باع فاسدا ثم تصرف في العين بعقد صحيح مع علمه بفساد الأول صح الثاني ; لأنه تصرف في ملكه عالما بأنه ملكه ، وإن اعتقد صحة الأول ففي الثاني وجهان ، كما لو تصرف في عين يعتقد أنها لأبيه فبان أنه قد مات وملكها ، قال القاضي : أصلهما : من باشر بالطلاق امرأة يعتقدها أجنبية فبانت امرأته ، أو باشر بالعتق من يعتقدها حرة فبانت أمته ، ففي وقوعهما روايتان .

التالي السابق


الخدمات العلمية