صفحة جزء
فصل في عطية المريض أما المريض غير مرض الموت ، أو مرضا غير مخوف كالرمد ووجع الضرس والصداع ونحوه ، فعطاياه كعطايا الصحيح سواء ، يصح في جميع ماله ، وإن كان مرض الموت المخوف ؛ كالبرسام ، وذات الجنب والرعاف الدائم ، والقيام المتدارك ، والفالج في ابتدائه ، والسل في انتهائه ، وما قال عدلان من أهل الطب أنه مخوف فعطاياه كالوصية في أنها لا تصح لوارث ولا لأجنبي بزيادة على الثلث إلا بإجازة الورثة كالهبة والعتق والكتابة والمحاباة ، فأما الأمراض الممتدة كالسل ، والجذام ، والفالج في دوامه ، فإن صار صاحبها صاحب فراش فهي مخوفة وإلا فلا ، وقال أبو بكر : فيه وجه آخر أن عطيته من الثلث ، ومن كان بين الصفين عند التحام الحرب ، أو في لجة البحر عند هيجانه ، أو وقع الطاعون ببلده ، أو قدم ليقتص منه ، والحامل عند المخاض - فهو كالمريض . وقال الخرقي : وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر ، وقيل عن أحمد ما يدل على أن عطايا هؤلاء من المال كله ، وإن عجز الثلث عن التبرعات المنجزة بدئ بالأول فالأول منها ، وإن تساوت قسم بين الجميع بالحصص ، وعنه : يقدم العتق ، وأما معاوضة المريض بثمن المثل فيصح من رأس المال وإن كانت مع وارث ، ويحتمل ألا يصح لوارث . وإن حابا وارثه فقال القاضي : يبطل في قدر ما حاباه ، وتصح فيما عداه ، وللمشتري الخيار ; لأن الصفقة تبعضت في حقه ، فإن كان له شفيع فله أخذه ، فإن أخذه فلا خيار للمشتري .


فصل في عطية المريض

( أما المريض غير مرض الموت ، أو مرضا غير مخوف كالرمد ) ، وهو ورم حار في الملتحم عن مادة في العين ، ويعرف بتقدم الصداع ، وقد يكون من الحجاب [ ص: 386 ] الداخل ، وقد يكون من الخارج ( ووجع الضرس ، والصداع ) اليسير وهو وجع الرأس ( ونحوه ) كحمى يوم ، قاله في " الرعاية " ، وقيل : ساعة ، قاله في " الشرح " ، وإسهال يسير من غير دم ( فعطاياه كعطايا الصحيح سواء ) ؛ لأنه في حكم الصحيح لكونه لا يخاف منه في العادة ( يصح في جميع ماله ) ولو اتصل به الموت ؛ للأدلة ، وكما لو كان مريضا فبرأ ( وإن كان مرض الموت ) القاطع بصاحبه ( المخوف ) - أي مرضا مخوفا اتصل به الموت ( كالبرسام ) ، وهو بخار يرتقي إلى الرأس ويؤثر في الدماغ فيحيل عقل صاحبه ، وقال عياض : هو ورم في الدماغ يتغير منه عقل الإنسان ويهذي ، ويقال فيه : سرسام ، ( وذات الجنب ) ، وهو قرح بباطن الجنب ، ووجع القلب والرئة ، ولا تسكن حركتها ، وقيل : هو دمل كبيرة تخرج بباطن الجنب وتفتح إلى داخل ( والرعاف الدائم ) ، فإنه يصفي الدم فيذهب القوة ( والقيام المتدارك ) ، هو المبطون الذي أصابه الإسهال ولا يمكنه إمساكه ، فإن كان يجري تارة وينقطع أخرى ، فإن كان يوما أو يومين فليس بمخوف ; لأنه قد يكون من فضلة الطعام ، إلا أن يكون معه زحير وتقطيع ، فيكون مخوفا ; لأنه يضعف البدن ، ( والفالج في ابتدائه ) ، وهو داء معروف يرخي بعض البدن ، قال ابن القطاع : فلج فالجا بطل نصفه أو عضو منه ، ( والسل في انتهائه ) ، هو - بكسر السين - داء معروف ، وقد سل وأسله الله تعالى فهو مسلول على غير قياس ، ومثله القولنج ، وهو أن ينعقد الطعام في بعض الأعضاء ولا ينزل عنه ، فهذه الأشياء مخوفة ، وإن لم يكن معها حمى ، وهي مع الحمى أشد خوفا ، وإن بادره الدم واجتمع في عضو كان مخوفا ; لأنه من الحرارة المفرطة ، وإن هاجت به الصفراء فهي مخوفة ; لأنها تورث يبوسة ، [ ص: 387 ] وكذلك البلغم إذا هاج ; لأنه من شدة البرودة ، وقد يغلب على الحرارة الغزيرة فيطفئها ، ذكره في " المغني " و " الشرح " ( وما قال عدلان ) - أي مسلمان - ( من أهل الطب ) أي عند الشك فيه ( أنه مخوف ) فيرجع إلى قولهما ؛ لأنهما من أهل الخبرة ، كذا جزم به الأصحاب ، فظاهره أنه لا يقبل فيه قول واحد ; لأنه يتعلق به حق الوارث والعطايا ، وقيل : يقبل لعدم ، وذكر ابن رزين المخوف عرفا ، أو يقول عدلين ( فعطاياه ) صحيحة ; لأن عمر أوصى حين جرح وسقي لبنا وخرج من جرحه ، واتفق الصحابة على نفوذ عهده ( كالوصية في أنها لا تصح لوارث ولا لأجنبي بزيادة على الثلث إلا بإجازة الورثة كالهبة ) المقبوضة ( والعتق ، والكتابة ، والمحاباة ) ، والصدقة ، والوقف ، والإبراء من الدين ، والعفو عن الجناية الموجبة للمال ؛ لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم ، رواه ابن ماجه ، فمفهومه ليس له أكثر من الثلث ، يؤيده ما روى عمران بن حصين أن رجلا أعتق في مرضه ستة أعبد لم يكن له مال غيرهم فاستدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة رواه مسلم ، وإذا لم ينفذ العتق مع سرايته فغيره أولى ، ولأن هذه الحال الظاهر منها الموت فكانت عطيته فيها في حق ورثته لا تتجاوز الثلث كالوصية ، وعلم منه أن هذه العطايا إذا وجدت في الصحة فهي من رأس المال بغير خلاف نعلمه .

تنبيه : حكم العطية في مرض الموت حكم الوصية في أشياء منها :

أنه يقف نفوذها على خروجها من الثلث أو إجازة الورثة .

[ ص: 388 ] ومنها : أنها لا تصح لوارث إلا بإجازة الورثة .

ومنها : أن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة في الصحة .

ومنها : أنها تزاحم في الثلث إذا وقعت دفعة واحدة كتزاحم الوصايا .

ومنها : أن خروجها من الثلث يعتبر حال الموت لا قبله ولا بعده .

( فأما الأمراض الممتدة كالسل ، والجذام ، والفالج في دوامه ) ، وحمى الربع ( فإن صار صاحبها صاحب فراش ) ، أي لزم الفراش ( فهي مخوفة ) أي عطيته من الثلث ; لأنه مريض صاحب فراش يخشى منه التلف ، أشبه الحمى المطبقة ( وإلا فلا ) ، أي إن لم يصر صاحبها صاحب فراش فليست مخوفة ، وعطيته حينئذ من رأس المال ، قال القاضي : إذا كان يذهب ويجيء فعطاياه من جميع المال ، هذا تحقيق المذهب ; لأنه لا يخاف تعجيل الموت منه ، وإن كان لا يبرأ منه فهو كالهرم ( وقال أبو بكر : فيه وجه آخر أن عطيته من الثلث ) مطلقا ; لأنها مخوفة في الجملة ، فوجب إلحاقها به من غير تفصيل ، وهو رواية نقل حرب في وصية المجذوم والمفلوج من الثلث ، فالمجد أثبتها وجعلها ثابتة ، وصاحب " الشرح " حملها على الأول ، وذكر أبو بكر وجها آخر : أن عطايا هؤلاء من المال كله ، وقول ابن المنجا : إنه يلزم منه التناقض على قول أبي بكر ليس بظاهر ، فغايته أنه حكى وجهين ( ومن كان بين الصفين عند التحام الحرب ) بأن اختلطت الطائفتان للقتال ، وكانت كل منهما مكافئة للأخرى أو مقهورة ، ولا فرق بين كونهما متفقين في الدين ; لأن توقع التلف هنا كتوقع المريض أو أكثر ، فوجب أن يلحق به ، فأما القاهرة بعد ظهورها فليس بمخوف . ( أو في لجة البحر [ ص: 389 ] عند هيجانه ) أي إذا اضطرب وهبت الريح العاصف ; لأن الله تعالى وصفهم بشدة الخوف في قوله تعالى : هو الذي يسيركم في البر والبحر [ يونس : 22 ] الآية ، وظاهره أنه إذا ركبه وهو ساكن فليس بمخوف ( أو وقع الطاعون ) قال أبو السعادات : هو المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء ، فتفسد به الأمزجة والأبدان ، وقال عياض : هو قروح تخرج في المغابن وغيرها لا يلبث صاحبها ويغم إذا ظهرت ، وفي شرح مسلم : وأما الطاعون فوباء معروف ، وهو بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهب ويسود ما حوله ويخضر ويحمر حمرة بنفسجية ، ويحصل معه خفقان للقلب ( ببلدة ) ؛ لأنه مخوف إذا كان فيه ، ( أو قدم ليقتص منه ) ؛ لأنه إذا حكم للمريض وحاضر الحرب بالخوف مع ظهور السلام ، فمع ظهور التلف وقربه أولى ، ولا عبرة بصحة البدن ، ولو عبر بالقتل كغيره لعم ، سواء كان قصاصا أو غيره كالرجم ، وكذا إذا حبس للقتل ، ذكره في " الكافي " و " الفروع " ، وأسير عند من عادتهم القتل .

مسألة : إذا كان المريض يتحقق تعجيل موته ، فإن كان عقله قد اختل كمن ذبح أو أبينت حشوته فلا حكم لعطيته ولا كلامه ، وإن كان ثابت العقل كمن خرقت حشوته أو اشتد مرضه ولم يتغير صح تصرفه ، وذكر في " المغني " و " الشرح " : وكمن جرح جرحا موجيا مع ثبات عقله ، وفي " الترغيب " : من قطع بموته كقطع حشوته ، وغريق ، ومعاين كميت ( والحامل عند المخاض ) أي عند الطلق ، كذا ذكره معظم الأصحاب ، ( فهو كالمريض ) مرضا مخوفا ; لأنه يحصل لها ألم شديد يخاف منه التلف ( وقال الخرقي : وكذلك الحامل [ ص: 390 ] إذا صار لها ستة أشهر ) ، هو رواية عن أحمد ، أي عطيتها من الثلث كمريض حتى تنجو من نفاسها ; لأنه وقت تمكن الولادة فيه ، وهو من أسباب التلف ، والأشهر مع ألم ، وقال إسحاق : إذا ثقلت لا يجوز لها إلا الثلث ، ولم يحد حدا ، وحكاه ابن المنذر عن أحمد ( وقيل عن أحمد ما يدل على أن عطايا هؤلاء من المال كله ) ، حكاه أبو بكر ; لأنه لا مرض بهم ، فهم كالصحيح .

تنبيه : إذا ولدت المرأة فإن بقيت المشيمة معها أو مات معها فهو مخوف ، فإن خرجا فحصل ثم ورم أو ضربان شديد فكذلك ، وإن لم يكن شيء من ذلك فقد روي عن أحمد في النفساء إذا كانت ترى الدم فعطيتها من الثلث ، والسقط كالولد التام لا مضغة أو علقة ، إلا أن يكون ألم ، قاله في " المغني " و " الشرح " .

( وإن عجز الثلث عن التبرعات المنجزة ) يحترز به عن الوصية ، فالتبرع عبارة عن إزالة ملكه فيما ليس بواجب بغير عوض . ( بدئ بالأول فالأول منها ) ؛ لأن السابق استحق الثلث فلم يسقط بما بعده ، وسواء كان السابق عتقا أو غيره ، وعنه : يقسم بين الكل بالحصص ، وعنه : يقدم العتق ، وعلم منه أن التبرعات إذا كانت عطايا ووصايا تقدم العطايا ; لأنها أسبق ، ( وإن تساوت ) أي وقعت دفعة بأن وكل جماعة فيها فأوقعوها دفعة واحدة ( قسم بين الجميع بالحصص ) على المذهب ; لأنهم تساووا في الاستحقاق ، فيقسم بينهم على قدر [ ص: 391 ] حقوقهم كغرماء المفلس ( وعنه : يقدم العتق ) ؛ لأنه آكد لكونه مبنيا على السراية والتغليب ، وإن كانت كلها عتقا أقرعنا بينهم ، فيكمل العتق في بعضهم .

أصل : إذا قضى المريض بعض غرمائه ووفت تركته بالكل صح ، وإن لم يف فوجهان ، أشهرهما - وهو قياس قول أحمد - أنهم لا يملكون الاعتراض عليه ; لأنه أدى واجبا عليه كأداء ثمن المبيع ، والثاني عكسه ; لأن حقهم تعلق بماله بمرضه ، فمنع تصرفه فيه كالتبرع ، وما لزمه في مرضه من حق لا يمكنه دفعه وإسقاطه فهو من رأس ماله ، فلو تبرع أو أعتق ثم أقر بدين لم يبطل تبرعه ، نص عليه في العتق ; لأن الحق ثبت بالتبرع في الظاهر .

( وأما معاوضة المريض بثمن المثل فيصح من رأس المال ) ، ذكره الأصحاب ; لأنه إنما يعتبر من الثلث التبرع ، وليس هذا تبرعا ( وإن كانت مع وارث ) ؛ لأنه لا تبرع فيها ولا تهمة فصحت كالأجنبي ( ويحتمل أن لا يصح لوارث ) ، هذه رواية ; لأنه خصه بعين المال ، أشبه ما لو حاباه ، ومعناه أنها لا تصح معه إلا بإجازة ، اختاره في " الانتصار " ؛ لفوات حقه في المعين ، ( وإن حابا وارثه فقال القاضي : يبطل في قدر ما حاباه ) ؛ لأن المحاباة كالوصية ، وهي لوارث باطلة فكذا المحاباة ، ( وتصح فيما عداه ) ؛ لأن المانع من صحة البيع المحاباة ، وهي هنا مفقودة ، فعلى هذا لو باع شيئا بنصف ثمنه فله نصفه بجميع الثمن ; لأنه تبرع له بنصف الثمن ، فبطل التصرف فيما تبرع به ، وعنه : يبطل بيع الكل ، وعلى الأول محله بدون إجازة الوارث ، وتعتبر إجازة المجنون في مرضه من ثلثه ، وقال ابن [ ص: 392 ] حمدان : إن جعلت عطية ، وإلا فمن كله ( وللمشتري الخيار ; لأن الصفقة تبعضت في حقه ) ، فشرع ذلك دفعا للضرر ، فإن فسخ وطلب قدر المحاباة ، أو طلب الإمضاء في الكل وتكميل حق الورثة من الثمن لم يكن له ذلك ، وعنه : يصح في العين كلها ويرد المشتري الوارث تمام قيمتها أو يفسخ ، ( فإن كان له شفيع فله أخذه ) ؛ لأنها تجب بالبيع الصحيح وقد وجد ، ( فإن أخذه فلا خيار للمشتري ) ؛ لزوال الضرر عنه ; لأنه لو فسخ المبيع رجع بالثمن ، وقد حصل له الثمن من الشفيع .

فرع : إذا آجر نفسه وحابا المستأجر صح مجانا .

التالي السابق


الخدمات العلمية