صفحة جزء
ولا يثبت الملك للموصى له إلا بالقبول بعد الموت ، فأما قبوله ورده قبل الموت ، فلا عبرة به فإن مات الموصى له قبل موت الموصي ، بطلت الوصية ، وإن ردها بعده ، بطلت أيضا ، وإن مات بعده وقبل الرد والقبول ، أقام وارثه مقامه ، ذكره الخرقي ، وقال القاضي : تبطل الوصية في قياس قوله ، وإن قبلها بعد الموت ثبت الملك حين القبول في الصحيح ، فما حدث قبله من نماء منفصل ، فهو لورثته ، وإن كان متصلا تبعها ، وإن كانت الوصية بأمة فوطئها الوارث قبل القبول فأولدها ، صارت أم ولد له ، ولا مهر عليه ، وولده حر ، لا يلزمه قيمته ، وعليه قيمتها للموصي ، وإن وصى له بزوجته فأولدها قبل القبول لم تصر أم ولد له ، وولده رقيق ، ومن أوصى له بأبيه ، فمات قبل القبول ، فقبل ابنه ، عتق الموصى به حينئذ ، ولم يرث شيئا ، فتنعكس هذه الأحكام .


( ولا يثبت الملك للموصى له إلا بالقبول بعد الموت ) أي : إذا كانت لمعين يمكن القبول منه في قول جمهور الفقهاء ; لأنه تمليك مال فاعتبر قبوله كالهبة ، قال أحمد : الهبة والوصية واحدة ، ولا يتعين القبول باللفظ ، بل يحصل به وبما قام مقامه كالهبة والبيع ، ويجوز القبول على التراخي كالفور ، وحينئذ الملك له شرطان ، الأول : القبول ، الثاني : أن يكون القبول بعد موت الموصي ; لأنه قبل ذلك لم يثبت له حق ، فأما إن كانت لغير معين كالفقراء ، أو لا يمكن حصرهم كبني تميم ، أو على مصلحة مسجد أو حج ، لم يفتقر إلى قبول ، ولزمت بمجرد الموت ; لأن اعتبار القبول منهم متعذر ، فسقط اعتباره كالوقف عليهم ، ولا يتعين واحد منهم ، فيكتفى به ، ولو كان فيهم ذو رحم من الموصى له ، كمن أوصى بعبد للفقراء وأبوه منهم ، لم يعتق عليه ; لأن الملك لا يثبت لكل منهم إلا بالقبض ( فأما قبوله ورده قبل الموت ، فلا عبرة به ) لأنه لم يثبت له حق [ ص: 20 ] ( فإن مات الموصى له قبل موت الموصي ، بطلت الوصية ) في قول أكثر العلماء ; لأنها عطية صادفت المعطى ميتا ، فلم تصح ، كما لو وهب ميتا إلا أن يكون أوصى بقضاء دينه ، فلا تبطل ، قاله الحارثي وغيره ( وإن ردها بعده ، بطلت أيضا ) للرد أحوال :

منها : أن يردها قبل موت الموصي ، فلا يصح الرد ، وقد ذكره ; لأن الوصية لم تقع بعد ، أشبه رد المبيع قبل إيجاب البيع ، ولأنه ليس بمحل للقبول .

ومنها : أن يردها بعد الموت ، وقبل القبول ، وهي مسألة المتن فيصح الرد ، وتبطل الوصية بغير خلاف نعلمه ; لأنه أسقط حقه في حالة يملك قبوله وأخذه ، أشبه عفو الشفيع عنها بعد البيع .

ومنها : أن يرد بعد القبول والقبض ، فلا يصح الرد ; لأن ملكه قد استقر عليه ، أشبه رده كسائر أملاكه إلا أن ترضى الورثة بذلك ، فتكون هبة منه لهم يفتقر إلى شروطها .

ومنها : أن يرد بعد القبول وقبل القبض ، فلا يصح الرد ; لأن الملك يحصل فيه بالقبول من غير قبض ، وقيل : يصح فيما كيل ، أو وزن ، دون المعين في الأشهر فيهما ، وقيل : يصح مطلقا بناء على أن القبض معتبر فيه ، فإن لم يقبل ، فكمتحجر مواتا ، أي للورثة مطالبته بأحدهما ، فإن امتنع ، حكم عليه بالرد ، وسقط حقه منها ، وكل موضع صح الرد قبل القبول ، أو القبض ، فالمردود إرث ، وليس له رده إذن إلى بعض الورثة ولا إلى غيرهم ، وإذا امتنع الرد بعد القبول والقبض ، فله هبته وتمليكه لوارث وغيره .

[ ص: 21 ] فرع : يحصل الرد بقوله رددت الوصية ، وكذا لا أقبلها ، قال أحمد : إذا أوصى لرجل بألف ، فقال : لا أقبلها فهي لورثته .

( وإن مات بعده ، وقبل الرد والقبول ، أقام وارثه مقامه ، ذكره الخرقي ) قدمه في الفروع ، وجزم به في الوجيز ; لأنه حق ثبت للموروث ، فينتقل إلى الوارث بعد موته ، ولقوله عليه السلام من ترك حقا فلورثته ، وكخيار العيب ، ثم إن كان الوارث جماعة اعتبر القبول والرد من جميعهم ، وإن رد بعض وقبل آخر ، وترتب على كل حكمه ، فإن كان فيهم موليا عليه ، تقيد وليه بفعل الأحظ ( وقال القاضي : تبطل الوصية ) وهو رواية ; لأنها تفتقر إلى القبول ، فإذا مات قبله بطلت كالهبة ( في قياس قوله ) أي : قول الإمام ; لأنه خيار لا يعتاض عنه ، فبطل كخيار المجلس والشرط والشفعة ، نص عليه ، وهذا مثله ، وحكى في المغني والشرح : البطلان ، عن ابن حامد ، وأن القاضي قال : هو قياس المذهب ( وإن قبلها بعد الموت ، ثبت الملك ) للموصى له ( حين القبول في الصحيح ) من المذهب ، أومأ إليه أحمد ، وهو قول أهل العراق ; لأنه تمليك عين لمعين تفتقر إلى القبول ، فلم يسبق الملك القبول كسائر العقود ، والقبول من تمام السبب ، والحكم لا يتقدم سببه ولا شرطه ، وفيه وجه آخر ذكره أبو الخطاب ، وقدمه في الرعاية : أنه إذا قبل تبينا أن الملك ثبت حين موت الموصي ; لأن ما وجب انتقاله بالقبول ، وجب انتقاله من جهة الموجب عند الإيجاب كالهبة ، واختار أبو بكر أن الملك يقف مراعى ، وعلى الأول هل هي قبل القبول على ملك الميت أو الورثة ؛ فيه وجهان ، ونص أحمد في مواضع أنه لا يعتبر له القبول : فيملكه قهرا [ ص: 22 ] كالميراث ، وحكاه الحلواني عن الأصحاب ، ولهذا الاختلاف فوائد نبه المؤلف على بعضها .

( فما حدث قبله ) أي : قبل القبول ( من نماء منفصل ) كالولد والثمرة فهو لورثته ; لأنه ملكهم ، فعلى هذا يزكونه ، وقيل : للميت ، وقيل : منذ مات الوصي فيزكيه ، وفي القواعد أن النماء المنفصل إن قلنا : هو على ملك الموصى له ، فهو له لا يحسب عليه من الثلث ، وإن قلنا : هو ملك الميت ، فتتوفر به التركة فيزداد به الثلث ، وإن قلنا : على ملك الورثة ، فنماؤه لهم خاصة ، وذكر القاضي في خلافه : أن ملك الموصى له لا يتقدم القبول ، وأن النماء قبله للورثة مع أن العين باقية على حكم مال الميت ، فلا يتوفر به الثلث ; لأنه لم يكن ملكا له حين الموت ( وإن كان متصلا ، تبعها ) كما يتبع في العقود والفسوخ ( وإن كانت الوصية بأمة فوطئها الوارث قبل القبول ) ( فأولدها صارت أم ولد له ) لأنه وطئ مملوكته ( ولا مهر عليه ) لأن الإنسان لا يجب عليه مهر من وطء مملوكته ( وولده حر ) لأنه وطئها في ملكه ( لا يلزمه قيمته ) لأنه لا حق فيه لأحد ، بل انعقد حرا ( وعليه قيمتها للموصي ) إذا قبلها ; لأنه فوتها عليه ، أشبه ما لو أتلفها ، لا يقال كيف قضيتم هنا بعتقها ، وهي لا تعتق بإعتاقه ; لأن الاستيلاد أقوى بدليل نفوذه من المجنون والمراهق ، والشريك المعسر ، وإن لم ينفذ إعتاقهم ، لكن إذا ، وطئها الموصى له قبل قبولها ، كان ذلك قبولا لها ، ويثبت الملك له كوطء من له الخيار .

( وإن وصى له بزوجته ، فأولدها قبل القبول ، لم تصر أم ولد له ) لأنها لم تصر [ ص: 23 ] ملكا له بعد ( وولده رقيق ) لأنه من وطء في ملك غيره ( ومن أوصى له بأبيه فمات ) الموصى له ( قبل القبول ، فقبل ابنه ) صح و ( عتق الموصى به ) وهو الجد ( حينئذ ) أي : حين القبول ، ولم يرث من ابنه ( شيئا ) لأن حريته إنما حدثت حين القبول بعد أن صار الميراث لغيره ( ويحتمل أن يثبت الملك حين الموت ) كالبيع ( فتنعكس هذه الأحكام ) فيكون النماء المنفصل للموصى له كالمتصل ; لأنه نماء ملكه ، وفي الثانية : أنها لا تصير أم ولد له ; لأنه وطء في غير ملك ، وهي باقية على الرق ، وعليه المهر ; لأنه وطئ مملوكة غيره ، وولده رقيق لما ذكرنا ، وفي الثالثة : يكون حر الأصل ، ولا ولاء عليه ، وأمه أم ولد ; لأنها علقت منه بحر في ملكه ، وفي الرابعة تثبت حريته من حين موت الموصي ، ويرث من ابنه السدس ، وللخلاف فوائد أخرى .

منها : لو أوصى بأمة لزوجها ، فلم يعلم حتى أولدها ، ثم قبلها ، فإن قيل : يملكها بالموت ، فولده حر وهي أم ولده ، ويبطل نكاحه بالموت ، وإن قيل : لا يملكها إلا بعد القبول ، فنكاحه باق قبل القبول ، وولده رقيق للوارث .

ومنها : لو زوج أمته بابنه ، ثم وصى بها لآخر ، وهي تخرج من الثلث ، لم ينفسخ نكاح الابن ، وعلى الثاني عكسه .

ومنها : لو وصى لرجل بأرض ، فبنى الوارث فيها ، أو غرس قبل القبول ، ثم قبل ، ففي الإرشاد إن كان الوارث عالما بالوصية قلع غرسه وبناؤه مجانا ، وإن كان جاهلا ، فوجهان ، قال في القواعد : وهذا متوجه على القول بالملك بالموت [ ص: 24 ] أما إن قيل : إنها قبل القبول على ملك الوارث ، فهو كبناء مشتري الشقص المشفوع وغرسه فيكون محترما يتملك بقيمته .

ومنها : لو بيع شقص في تركة الورثة ، والموصى له قبل قبوله ، فإن قلنا : الملك له من حين الموت ، فهو شريك للورثة في الشفعة ، وإلا فلا حق له فيها .

ومنها جريانه من حين الموت في حول الزكاة ، فإن قلنا : يملكه الموصى له جرى في حوله ، فإن قلنا : للورثة ، فهل يجري في حولهم حتى لو تأخر القبول سنة ، كانت زكاته عليهم ، أم لا لضعف ملكهم فيه ، وتزلزله ، وتعلق حق الموصى له به فهو كمال المكاتب ؛ فيه تردد .

ومنها : لو نقص الموصى به في سعر ، أو صفة ، فذكر جماعة أنه يقوم بسعره وقت الموت ، وفي المحرر إن قلنا : يملكه بالموت ، اعتبرت قيمته من التركة بسعره يوم الموت على أدنى صفاته من يوم الموت إلى القبول ; لأن الزيادة حصلت في ملكه ، فلا تحسب عليه ، والنقص لم يدخل في ضمانه ، وإن قلنا : يملكه من حين القبول ، اعتبرت قيمته يوم القبول سعرا وصفة ; لأنه لم يملكه قبل ذلك ، وذكر الخرقي ، ونص عليه : أنه تعتبر قيمته يوم الوصية ، ولم يحك في المغني خلافا ، فظاهره : أنه يعتبر سعره بيوم الموت على الوجوه كلها ; لأن حقه تعلق بالموصى به تعلقا قطع تصرف الورثة فيه فيكون ضمانه عليه كالعبد الجاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية