صفحة جزء
وإن وصى في أبواب البر صرفه ، وقيل عنه : يصرف في أربع جهات : في الأقارب والمساكين والحج والجهاد ، وعنه : فداء الأسرى مكان الحج وإن وصى أن يحج عنه بألف ، صرف في حجة بعد أخرى حتى ينفد ، ويدفع إلى كل واحد قدر ما يحج به ، وإن قال : حجوا عني بألف ، دفع الكل إلى من يحج به ، فإن عينه ، فقال : يحج عني فلان بألف ، فإن أبى الحج ، وقال : اصرفوا لي الفضل ، لم يعطه ، وبطلت الوصية وإن وصى لأهل سكته ، فهو لأهل دربه ، وإن وصى لجيرانه ، تناول أربعين دارا من كل جانب وقال أبو بكر : مستدار أربعين دارا ، وإن وصى لأقرب قرابته ، وله أب وابن ، فهما سواء ، والجد والأخ سواء ، ويحتمل تقديم الابن على الأب ، والأخ على الجد ، والأخ من الأب والأخ من الأم سواء ، والأخ من الأبوين أحق منهما .


( وإن وصى في أبواب البر صرفه في القرب ) كلها ، اختاره المؤلف ، وجزم به في الوجيز ; لأن اللفظ للعموم فيجب الحمل عليه ، ولا يجوز التخصيص إلا بدليل ( وقيل عنه ) أي عن الإمام أحمد ( يصرف في أربع جهات في الأقارب ، والمساكين ، والحج ، والجهاد ) قال ابن المنجا : وهي المذهب ; لأن أبواب البر ، وإن كانت عامة إلا أن الظاهر من حال الموصي أنه أراد المشهور منها ، والجهات الأربع هي أشهر القرب ; لأن الصدقة على الأقارب صدقة وصلة ، والمساكين مصارف الصدقات ، والحج والجهاد من أكبر شعائر الإسلام ، وظاهره أنها سواء ، لكن الغزو أفضلها ، فيبدأ به ، نص عليه في رواية حرب ، وهو قول أبي الدرداء ( وعنه فداء الأسرى مكان الحج ) لأن فداءهم من أعظم القربات ; لما فيه من تخليص رقبة مؤمنة من أيدي الكفار ، وهو يتضمن منفعة المخلص ، ونفع نفسه ، بخلاف الحج ، ونقل المروذي عنه فيمن أوصى بثلثه في أبواب البر [ ص: 40 ] يجزأ ثلاثة أجزاء في الجهاد ، والأقارب ، والحج ، قال في المغني : وهذا ليس على سبيل اللزوم والتحديد ، بل يجوز صرفها في الجهات كلها للعموم ، ولأنه ربما كان غير هذه الجهات من تكفين ميت ، وإصلاح طريق ، وإعتاق رقبة ، وإغاثة ملهوف - أحوج من بعضها وأحق . فرع : إذا قال : ضع ثلثي حيث أراك الله ، فله صرفه في أي جهة من جهات القرب عملا بمقتضى وصيته ، وقال القاضي : يجب صرفه إلى الفقراء ، والمساكين ، والأفضل صرفه إلى فقراء أقاربه فإن لم يجد ، فإلى محارمه من الرضاع ، فإن لم يكن ، فإلى جيرانه . ( وإن وصى ) أي : من لا حج عليه ، قاله في الوجيز والفروع ( أن يحج عنه بألف ، صرف ) من ثلثه ( في حجة ) أي مؤنة حجه ، أمانة ، أو جعالة ، أو إجارة ، إن صح الإيجار عليه من محل وصيته كحجه بنفسه ، وقيل : أو من الميقات ، وهو أولى ( بعد أخرى ) راكبا أو راجلا ، نص عليه ( حتى ينفد ) لأنه وصى بها في جهة قربة ، فوجب صرفها فيها كالوصية في سبيل الله ، وعنه لا يصرف منها سوى مؤنة حجة واحدة ، والبقية إرث ، وعنه : بعد حجه للحج ، أو سبيل الله ، فلو لم تكف الألف ، أو البقية حج من حيث يبلغ في ظاهر نصوصه ، وعنه يعان به في حج ، قال القاضي : وحكاه العنبري عن سوار القاضي ، ونقل أبو داود يخير بينهما ( ويدفع ) الوصي ( إلى كل واحد قدر ما يحج به ) من غير زيادة على نفقة المثل ; لأنه أطلق له التصرف في المعاوضة ، فاقتضى عوض المثل كالتوكيل في البيع ، ثم إن كان الموصى به لا يحمل الثلث ، لم يخل [ ص: 41 ] من أن يكون الحج فرضا ، أو نفلا ، فإن كان فرضا ، أخذ أكثر الأمرين من الثلث ، أو القدر الكافي لحج الفرض إذا كان قد أوصى بالثلث ، فإن كان الثلث أكثر أخذه ، وصرف في الغرض قدر ما يكفيه ، وباقيه في حجة أخرى حتى ينفد ، وإن كان الثلث أقل ، تم قدر ما يكفي الحج ، في قول الجمهور ، وإن كان تطوعا أخذ الثلث لا غير إذا لم يجز الورثة ، ويحج به على ما وصفنا . ( وإن قال : يحج عني حجة بألف ، دفع الكل إلى من يحج ) لأنه أوصى بها في حجة واحدة ، فوجب أن يعمل بها ، فإن فضل منها فضل ، فهو لمن يحج ; لأنه قصد إرفاقه ، فكأنه صرح به ، وقيل : إرث ، جزم به في التبصرة ، ولا يدفعها إلى وارث نص عليه ، زاد في الشرح وغيره حيث كان فيها فضل إلا بإذن الورثة ، واختار جماعة للوارث أن يحج عنه إذا عينه ، ولم يزد على نفقة المثل ، وفي الفصول : إن لم يعينه ، جاز ، وقيل له في رواية أبي داود : أوصى أن يحج عنه ؛ قال : لا ، كأنه وصية لوارث ( فإن عينه ، فقال : يحج عني فلان بألف ) صرف ذلك إليه ( فإن أبى الحج ، وقال : اصرفوا لي الفضل لم يعطه ) لأنه إنما وصى له بالزيادة بشرط الحج ، ولم يوجد ( وبطلت الوصية ) حكاه في الفروع قولا ; لأن الموصى له لم يقبلها بامتناعه من فعلها ، أشبه ما لو أوصى له بمال فرده ، وقيل : في حقه ، وقد زاده بعض من أذن له المؤلف في الإصلاح ; لأن الوصية فيها حق للحج ، وحق للموصى له ، فإذا رده ، بطل في حقه دون غيره ; لقوله : بيعوا عبدي لفلان ، وتصدقوا بثمنه ، فلم يقبله ، وكما لو لم يقدر الموصى له بفرس في السبيل على الخروج ، نقله أبو طالب ، ويحج عنه بأقل ما يمكن من نفقة ، أو أجرة ، والبقية إرث كالفرض . [ ص: 42 ] فرع : إذا قال : حجوا عني حجة ، ولم يذكر قدرا من المال ، فإنه لا يدفع إلى من يحج إلا قدر نفقة المثل ، والباقي للورثة ، قال في الشرح : وهذا ينبني على أنه لا يجوز الاستئجار عليه ، فإن قلنا بجوازه ، فلا يستأجر إلا نفسه بأقل ما يمكن ، وما فضل ، فهو للأجير ; لأنه ملك ما أعطى بعقد الإجارة ، وإن تلف المال في الطريق ، فهو من ماله ، ويلزمه إتمام العمل ، فلو وصى بثلاث حجج إلى ثلاث نفر ، صح صرفها في عام واحد ، وجزم به في الوجيز ، وفي الرعاية عكسه . تنبيه : إذا أوصى أن يحج عنه بالنفقة ، صح ، واختار أبو محمد الجوزي : إن وصى بألف يحج بها ، صرف في كل حجة قدر نفقته حتى ينفذ ، وإن قال : حجوا عني بألف ، فما فضل للورثة ، ولو قال : يحج عني زيد بألف ، فما فضل وصية له أن يحج ، وله تأخيره لعذر ، ولا يعطى إلى أيام الحج ، قاله أحمد ، نقل أبو طالب : اشترى به متاعا يتجر به ، قال : لا يجوز ، قد خالف ، لم يقل اتجر به ، ولا يصح أن يحج وصي بإخراجها نص عليه ; لأنه منفذ كقوله تصدق عني ، لا يأخذ منه ، وكما لا يحج على دابة موصى بها في السبيل . ( وإن وصى لأهل سكته ، فهو لأهل دربه ) لأن السكة الطريق ، والدرب طريق مضاف إليه ، وحينئذ يعطى من كان ساكنا وقت الوصية ، أو طرأ إليه بعدها ، وجزم في المستوعب بالأول ، ونص عليه ، وقيل : أهل دربه وسكته أهل المحلة الذي طريقهم في دربه ( وإن وصى لجيرانه تناول أربعين دارا من كل جانب ) نص عليه ، وهو قول الأوزاعي ، لما روى أبو هريرة أن النبي [ ص: 43 ] صلى الله عليه وسلم ، قال الجار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا . رواه أحمد ، وهذا نص لا يجوز العدول عنه إن صح ، وإلا فالجار المقارب ، ويرجع فيه إلى العرف ، قاله في الشرح ، وحكاه في الفروع قولا ، ونقل ابن منصور ينبغي أن لا يعطى إلا الجار الملاصق ; لأنه مشتق من المجاورة ، ومقتضاه أن المجموع مائة وستون ، وفيه نظر ، فإن دار الموصي قد تكون كبيرة في التربيع فيسامتها من كل جهة أكثر من دار لصغر المسامت لها ، أو يسامتها داران ، يخرج من كل منها شيء عنها ، فيزيد على العدد ، ويقسم المال على عدد الدور ، وكل حصة دار تقسم على سكانها ، وجيران المسجد من يسمع النداء منه ، وقال أبو يوسف : الجيران أهل المحلة إن جمعهم مسجد ، فإن تفرق أهلها في مسجدين صغيرين متقاربين ، فكذلك ، وإن كانا عظيمين ، فكل أهل مسجد جيران ( وقال أبو بكر : مستدار أربعين دارا ) وهو رواية عن أحمد ; لأن الخبر يحتمل ، وعنه : ثلاثين دارا من كل جانب ، ذكرها ابن هبيرة ، وابن الزاغوني ، قال : واحتج لذلك بحديث رواه الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم . ( وإن وصى لأقرب قرابته ) أو لأقرب الناس إليه ، أو أقربهم به رحما ، وله أب وابن فهما سواء ; لأن كل واحد منهما يدلي بنفسه من غير واسطة ، فإن كان أحدهما ، تعين بلا شك ( والجد والأخ سواء ) لأن كل واحد منهما يدلي بالأب من غير واسطة ( ويحتمل ) وحكاه في المستوعب وجها ( تقديم الابن على الأب ) لأنه يسقط تعصيبه ، ورد بأن إسقاط تعصيبه لا يمنع مساواته ، ولا كونه أقرب منه ، بدليل ابن الابن يسقط تعصيب من بعده ( والأخ على [ ص: 44 ] الجد ) لأنه يدلي ببنوة الأب ، والجد يدلي بالأبوة ، فهما كالأب والابن ، ورد : بأنه لا يصح قياس الأخ على الابن ; لأنه يسقط تعصيب الجد ، بخلاف الابن ، وعلم منه تقديم الابن على الجد ، والابن على ابن الابن . تنبيه : البنت كالابن ، والجد أبو الأب ، وأبو الأم ، وأم الأب ، وأم الأم ، كلهم سواء ، ذكره في المغني ، ويحتمل تقديم أبي الأب على أبي الأم ; لأنه يسقطه ، ثم بعد الأولاد أولاد البنين ، وإن سفلوا الأقرب فالأقرب ، الذكور والإناث ، وفي أولاد البنات وجهان بناء على الوقف ، ثم بعد الأولاد الأجداد الأقرب منهم فالأقرب ; لأنهم العمود الثاني ، ثم الأخوة والأخوات ، ثم ولدهم ، وإن سفلوا ولا شيء لولد الأخوات إذا قلنا بعدم دخول ولد البنات ، والعم من الأب والعم من الأم سواء ، وفيه احتمال ، وكذلك أبناؤهما على الترتيب ، ذكره القاضي ( والأخ من الأب والأخ من الأم سواء ) لأنهما في درجة واحدة لا يقال : كيف سوى بينهما ؛ إذ لو أوصى لقرابته ، لم يدخل فيها ولد الأم على المذهب ، ومن لا يدخل في القرابة لا يدخل في أقرب القرابة ; لأن ذلك مخرج على الرواية الأخرى ، كما ذكره في المغني ، لا على المذهب ( والأخ من الأبوين أحق منهما ) لأن له قرابتين ، فهو أقرب ممن له قرابة واحدة ، فلو أوصى لعصبته ، فهو لمن يرثه بالتعصيب ، سواء كان ممن يرثه في الحال أو لا ، ويستوي فيه قريبهم وبعيدهم . فرع : لم يتعرض المؤلف لذوي الأرحام ، فإن قلنا بالرواية التي تجعل القرابة كل من يقع عليه اسم القرابة كان حكمهم كما سلف ، وإن قلنا القرابة تختص بمن كان من أولاد الآباء ، فلا تدخل فيهم الأم ، ولا أقاربها .

[ ص: 45 ] مسألة : أوصى لجماعة من أقرب الناس إليه ، أعطى ثلاثة ، فإن كانوا أكثر في درجة واحدة ، كالإخوة ، فهو لجميعهم ; لأن الاسم يشملهم ، وإن لم يوجد ثلاثة في درجة واحدة ، كملت من الثانية ، وإن لم تكمل منها ، فمن الثالثة . فوائد : أوصى بإحراق ثلث ماله صح وصرف في تجمير الكعبة ، وتنوير المساجد ، ذكره ابن عقيل ، وفي التراب يصرف في تكفين الموتى ، وفي الماء في عمل سفن للجهاد ، وفي الهواء قال شيخنا محب الدين بن نصر الله : يتوجه أن يعمل به باذهنج لمسجد ينتفع به المصلون ، وفيه شيء . ولو وصى بكتب العلم لآخر ، لم يدخل فيها كتب الكلام ; لأنها ليست من العلم ، ولو أوصى بدفنها لم تدفن ، قاله أحمد ، ونقل الأثرم : لا بأس ، وقال الخلال : الأحوط دفنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية