صفحة جزء
[ ص: 260 ] باب ميراث القاتل

كل قتل مضمون بقصاص أو دية أو كفارة ، يمنع القاتل ميراث المقتول ، سواء كان عمدا أو خطأ ، بمباشرة أو سبب ، صغيرا كان القاتل أو كبيرا ، وما لا يضمن بشيء من هذا كالقتل قصاصا أو حدا أو دفعا عن نفسه ، وقتل العادل الباغي أو الباغي للعادل ، فلا يمنع ، وعنه : لا يرث الباغي العادل ، ولا العادل الباغي ، فيخرج منه أن كل قاتل لا يرث .


باب

ميراث القاتل

عقد هذا الباب لبيان إرث القاتل وعدمه ، وهو المقصود بالترجمة ، وكان ينبغي أن يعبر بالنفي والقتل على ضربين : مضمون وغير مضمون ، فالمضمون موجب للحرمان ، وهو المعبر عنه بقوله :

( كل قتل مضمون بقصاص أو دية أو كفارة ) كمن رمى إلى صف الكفار فأصاب مسلما ( يمنع القاتل ميراث المقتول ) لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا يرث القاتل شيئا رواه أبو داود والدارقطني ، وعن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليس لقاتل ميراث رواه مالك وأحمد ، وعن ابن عباس مرفوعا مثله ، رواه أحمد ، وروى النسائي معناه مرفوعا ، صححه ابن عبد البر في الفرائض ، ونقل الاتفاق عليه ، وضعفه غيره ، والمعنى فيه : أنه لو ورث القاتل ، لم يأمن من داعر مستعجل الإرث أن يقتل مورثه ، فيفنى العالم ، فاقتضت المصلحة حرمانه ، ولأن القتل قطع الموالاة ، وهي سبب الإرث ، وظاهره : أن المقتول يرث من قاتله مثل أن يجرح مورثه ، ثم يموت قبل المجروح من تلك الجراحة ، وسواء انفرد به أو شارك غيره ، فلو شهد على مورثه مع جماعة ظلما بقتل لم يرثه ( سواء كان عمدا ) بالإجماع إلا ما حكي عن سعيد بن المسيب وابن جبير : أنهما ورثاه منه ; [ ص: 261 ] لأن آية المواريث تناولته بعمومها ، فيجب العمل بها ، ولا تعويل على هذا القول ; لشذوذه ، وقيام الدليل على خلافه ، فإن عمر أعطى دية ابن قتادة المذحجي لأخيه دون أبيه ، وكان حذفه بسيف فقتله ، واشتهر ذلك في الصحابة ، ولم ينكر ، فكان كالإجماع ، ولأن الوارث ربما استعجل موت مورثه ليأخذ ماله ، كما فعل الإسرائيلي الذي قتل ابن عمه ، فأنزل الله تعالى فيه قصة البقرة ( أو خطأ ) نص عليه ، وهو قول جمهور العلماء ، وذهب سعيد بن المسيب ، وعمرو بن شعيب ، والأوزاعي ، والزهري : أنه يرث من المال دون الدية ، وروي نحوه عن علي ; لأن ميراثه ثابت بالكتاب ، والسنة تخصص قاتل العمد ، فوجب البقاء على الظاهر فيما سواه .

وأجيب بما تقدم ، ولأن من لا يرث من الدية لا يرث من غيرها كقاتل العمد ، والمخالف في الدين ، سدا للذريعة ، وطلبا للتحرز عنه ، لكن ذكر أبو الوفاء ، وأبو يعلى الصغير : أنه يرث من لا قصد له من صبي مجنون ، وإنما يحرم من يتهم ، وصححه أبو الوفاء ، ونص أحمد خلافه ; لأنه قد يظهر الجنون ليقتله ، وقد يحرض عاقل صبيا ، فحسمنا المادة كالخطأ ( بمباشرة ) كان الخطأ كمن رمى صيدا ، فأصاب مورثه ( أو سبب ) كمن حفر بئرا عدوانا ، فسقط فيها مورثه ( صغيرا كان القاتل أو كبيرا ) لأنه قاتل فتشمله الأدلة ، وظاهره : لا فرق بين الأب وغيره ، وسواء قصد مصلحته ، كضرب الأب والزوج للتأديب ، وكسقيه الدواء ، وبط جرحه ، والمعالجة إذا مات به ، وفي الفروع : ولو شربت دواء ، فأسقطت جنينها ، لم ترث من الغرة شيئا ، نص عليه ، وقيل : من أدب ولده ، فمات ، لم يرثه ، وأنه إن سقاه دواء أو فصده ، أو بط سلعته لحاجة ، فوجهان ، [ ص: 262 ] وإن في الحافر احتمالين ، ومثله نصب سكين ، ووضع حجر ، ورش ماء ، وإخراج جناح ، انتهى . وقاله في الرعاية أيضا ، وجزم في الحاشية بأنه إذا أدب ولده ، فمات ، يمنع الإرث ، وظاهر الشرح إذا لم يقصد مصلحته .

( وما لا يضمن بشيء من هذا كالقتل قصاصا أو حدا ) كمن قتله الإمام بالرجم ، أو بالمحاربة ، وكذا إن شهد على مورثه بما يوجب الحد أو القصاص ، نقل محمد بن الحكم في أربعة شهود شهدوا على أختهم بالزنا ، فرجمت ، فرجمها مع الناس : يرثونها ; لأنهم غير قتلة ، ويتوجه في تزكية شهود كذلك ( أو دفعا عن نفسه ) لأنه فعل فعلا مأذونا فيه ، فلم يمنع الميراث ، كما لو أطعمه وسقاه ، فأفضى إلى تلفه ( وقتل العادل الباغي ، أو الباغي للعادل ، فلا يمنع ) صححه في الهداية والمحرر ، وجزم به في الوجيز ; لأن المنع من العدوان حسما لمادته ، ونفيا للقتل المحرم ، فلو منع هنا ، لكان مانعا من استيفاء الواجب ، أو الحق المباح استيفاؤه ( وعنه : لا يرث الباغي العادل ، ولا العادل الباغي ) لعموم الأدلة ، وهاتان روايتان ، لكن الأولى لا يرث الباغي العادل ، جزم بها القاضي في الجامع الصغير ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيها ، والمغني والتبصرة والترغيب ; لأن الباغي آثم ظالم ، فناسب أن لا يرث مع دخوله في عموم الأدلة ، وهذا بخلاف العادل ; لأنه مأذون في الفعل مثاب عليه ، وذلك لا يناسب نفي الإرث ، واختار المؤلف وجمع إن جرحه العادل ليصير غير ممتنع ، ورثه ، لا إن تعمد قتله ابتداء ، قال في الفروع : وهو متجه ، ولأن العادل إذا منع من الإرث مع الإذن ، جاز أن يمنع منه كل قاتل ; لأن أعلى مراتبه أن يكون مأذونا [ ص: 263 ] له فيه ( فيخرج منه أن كل قاتل لا يرث ) بحال في رواية هي ظاهر الخرقي ، وعموم الأدلة يشهد لها ، وهذا مبني على سد الذريعة ، والأول أولى ; لأنه إنما حرم الميراث في محل الوفاق ، لئلا يفضي إلى اتخاذ القتل المحرم وسيلة ، وفي مسألتنا حرمان الميراث يمنع إقامة الحدود واستيفاء الحقوق المشروعة ، ولا يفضي إلى اتخاذ قتل محرم ، فهو ضد ما ثبت في الأصل .

مسألة : أربعة إخوة قتل أكبرهم الثاني ، ثم قتل الثالث الأصغر ، سقط القصاص عن الأكبر ; لأن ميراث الثاني صار للثالث والأصغر نصفين ، فلما قتل الثالث الأصغر ، لم يرثه دون الأكبر ، فرجع إليه نصف دم نفسه ، وميراث الأصغر جميعه ، فيسقط عنه القصاص لميراثه بعض دم نفسه ، وله القصاص من الثالث ، ويرثه في ظاهر المذهب ، فإن اقتص منه ورثه وورث إخوته الثلاثة ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية