صفحة جزء
ولا يطهر جلد الميتة بالدباغ وهل يجوز استعماله في اليابسات بعد الدبغ ؛ على روايتين ، وعنه : يطهر منها جلد ما كان طاهرا في الحياة ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة .


( ولا يطهر جلد الميتة ) أي : الذي نجس بموتها ( بالدباغ ) نقله الجماعة ، وهو ظاهر المذهب ، وقول عمر ، وابنه ، وعائشة ، وعمران بن حصين لما روى عبد الله [ ص: 71 ] بن عكيم قال : أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بشهر أو شهرين ، أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب . رواه الخمسة .

ولم يذكر التوقيت غير أبي داود ، وأحمد ، وقال : ما أصلح إسناده ، وقال أيضا : حديث ابن عكيم أصحها ، ورواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن عبد الله ، وفي رواية الطبراني ، والدارقطني : كنت رخصت لكم في جلود الميتة ، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب .

وهو دال على سبق الرخصة ، وأنه متأخر ، وإنما يؤخذ بالآخر من أمره عليه السلام . لا يقال : هو مرسل لكونه من كتاب لا يعرف حامله ، لأن كتابه عليه السلام كلفظه ، ولهذا كان يبعث كتبه إلى النواحي بتبليغ الأحكام . فإن قلت : الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ ، وقاله النضر بن شميل ، وأجيب بمنع ذلك كما قاله طائفة من أهل اللغة ، يؤيده أنه لم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في الانتفاع به قبل الدبغ ، ولا هو من عادة الناس ( وهل يجوز استعماله في اليابسات ) ؛ احترز به عن المائعات ، فإن كثيرا من الأصحاب منعوا من ذلك ، وذكروه رواية واحدة قال ابن عقيل : ولو لم ينجس الماء بأن كانت تسع قلتين ، لأنها نجسة العين ، وجوزه الشيخ تقي الدين إذا لم ينجس الماء ( بعد الدبغ على روايتين ) كذا في ابن تميم ، وفي " المغني " ، و " الشرح " وخصاه بجلد طاهر حال الحياة ، وبعضهم حكاهما قبله ، وإن كان جلد كلب ، أو خنزير ، لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تنتفعوا من الميتة بشيء رواه الدارقطني بإسناد جيد .

والثانية : يجوز وهي الأصح لما روى ابن عباس قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة ، فمر بها [ ص: 72 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلا استمتعتم بإهابها ، فدبغتموه فانتفعتم به . رواه مسلم .

ولأن الصحابة لما فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم ، وأسلحتهم ، وذبائحهم ميتة ، ونجاسته لا تمنع الانتفاع به ، كالاصطياد بالكلب ، وإذا جاز استعماله جاز دبغه ، وإلا احتمل التحريم ، واحتمل الإباحة ، كغسل نجاسة بمائع ، وماء مستعمل ، وإن لم يطهر ، قاله القاضي . وكلام غيره خلافه ، قال في " الفروع " : وهو أظهر .

فرع : اختلف قول أحمد في جواز الخرز بشعر الخنزير ، وفي كراهته روايتان . وقيل : لا يجوز الخرز برطبه ، وفي يابسه الخلاف ، فإن خرز برطبه وجب غسله .

مسألة : يجوز اتخاذ منخل من شعر نجس ، نص عليه ، وقال ابن حمدان رحمه الله : يكره .

( وعنه : يطهر منها جلد ما كان طاهرا في الحياة ) قال ابن حمدان : وهي أولى ، ونقل جماعة أنها آخر قولي أحمد لما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما إهاب دبغ فقد طهر رواه مسلم .

وهو يتناول المأكول ، وغيره ، فيخرج منه ما كان نجسا في الحياة ، لكون الدبغ إنما يؤثر في رفع نجاسة حادثة بالموت ، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم . وعنه : يطهر جلد ما هو مأكول اللحم ، واختارها جماعة ، وهي قول الأوزاعي ، وأبي ثور لقوله عليه السلام : ذكاة الأديم دباغه رواه أحمد . لأنه شبه الدباغ بالذكاة ، وهي إنما تعمل في مأكول اللحم فلم تؤثر في غير مأكول كالذبح ، والأول ظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى لعموم لفظه في [ ص: 73 ] ذلك .

وعلى هذا : هل الدباغ يصيره كالحياة ، وهي اختيار المؤلف ، وصاحب " التلخيص " فلا يطهر منها إلا ما كان طاهرا في الحياة ، كالهر ، أو كالذكاة وهي اختيار المجد ، وقال بعضهم : وهي أصح ، فلا يطهر إلا ما تطهره الذكاة ، وقد يخرج عليهما جلد الآدمي ، فإن في طهارته إن قيل بنجاسته وجهين ، والأشهر عدمه ، وحكى ابن حزم الإجماع على أنه يحرم استعمال جلده وسلخه ، والمذهب الأول عند الأصحاب ، لعدم رفع المتواتر بالآحاد ، عدا الشيخ تقي الدين وغيره ، ونقل الجماعة : أنه لا يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من رمضان ، ونقل ابن بشر عنه أنه قال : كنت أذهب إليه ، رأيت السنة كلها ، وهو المذهب عند الأصحاب ، فرفعنا المتواتر بالآحاد لما بينهما من الفرق .

مسائل : لا يفتقر الدبغ إلى فعل آدمي ، فلو وقع في مدبغة طهر ، لأنها إزالة نجاسة ، فهو كالمطر يطهر الأرض النجسة ، ولا تحصل بتشميسه ، وقيل : بلى ، وكما في تتريبه أو ريح ، قال في " المغني " : ويفتقر ما يدبغ به أن يكون منشفا للخبث ، قال في " الرعاية " : ولا بد فيه من زوال الرائحة الخبيثة ، ولا تحصل بنجس كالاستجمار ، وفي " الرعاية " بلى ، ويغسل بعده ، وينتفع بما طهر ، وقيل : ويأكل المأكول ، وما طهر بدبغه جاز بيعه وإجارته ، ذكره في " الشرح " وغيره ، وعنه : لا ، كما لو لم يطهر ، وقال أبو الخطاب : يجوز بيعه مع نجاسته كثوب نجس ، قال في " الفروع " : فيتوجه منه بيعه مع نجاسة يجوز الانتفاع بها ، ولا فرق ولا إجماع ، فأما قبل الدبغ [ ص: 74 ] فلا ، ويغسل المدبوغ في وجه ، قال في " المغني " : وهو أولى لقوله عليه السلام : جلد الشاة الميتة يطهره الماء والقرظ رواه أبو داود .

ولأن ما يدبغ به ينجس بملاقاة الجلد ، فإذا اندبغ بقيت الآلة نجسة ، فلا تزول إلا بالغسل ، وفي آخر : يطهر لقوله عليه السلام : أيما إهاب دبغ فقد طهر ولأنه طهر بانقلابه فلم يفتقر إلى غسل ، كالخمرة .

( ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة ، نص عليه ، لما روى أبو المليح بن أسامة ، عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود السباع رواه أحمد ، وأبو داود ، وصححه الحاكم ، ورواه الترمذي ، وزاد وأن يفترش .

ولأنه ذبح غير مشروع ، فلم يفد طهارة الجلد ، كذبح المحرم الصيد ، لأن عندنا كل ذبح لا يفيد إباحة اللحم لا يفيد طهارة المذبوح ، قال القاضي : جلود السباع لا يجوز الانتفاع بها قبل الدبغ ولا بعده ، وهل يباح لبس جلد الثعلب ، والصلاة فيه ، أو لا ، أو يباح لبسه فقط ، أو يباحان مع كراهة الصلاة ؛ فيه روايات ، قال أبو بكر : لا يختلف قوله : إنه يلبس إذا دبغ بعد تذكيته .

التالي السابق


الخدمات العلمية